Sunday, January 28, 2018

غسان كنفاني: الصحفي المناضل



غسان كنفاني: الصحفي المناضل


الكتابات الصحفية تُعد من أبرز عطاءات كنفاني، و أضخمها حجما، و تراثه الصحفي ليس أبدا أقل قيمة من إنجازاته في القصة والرواية، و دوره في الصحافة يعد من أكبر العوامل التي أدت إلى اغتياله، و هذه هي الصحافة التي قادته إلى السجن، ولكن -من الغريب- قد لقي هذا الجانب المهم من شخصيته بالإهمال الكبير لدى الدارسين لإنتاجاته، فلم يحظى غسان بالاهتمام الذي كان يستحقه في هذا المجال.

فهو كان صحفيا قبل كل شئ، و له طابع خاص في كتابة المقال، و تحليل القضاى، و تناول الأخبار، و يتبوأ مكانة مرموقة في مجال الصحافة، و مهارته فيها مسلمة كما يقول الشاعر والصحفي اللبناني عبده وازن: “غسان كنفاني في النهار صحفي من الطراز الأول، و في الليل يتحول إلى القاص المأساوي.”[1] و يقول حنا مقبل: “يكفي أن يشار إلى أنه وصل إلى مرتبة من الإتقان من حيث كتابة المانشيت، إلى كتابة الخبر، إلى صياغة المقال السياسي إلى درجة لم يصل له أي صحافي فلسطيني، و كثير من الصحفيين العرب من الأسماء اللامعة.”[2] و قول حنا مقبل يدل على مدى إلمام غسان بالصحافة، و الموقع الصحفي الذي احتله غسان في العالم العربي.

مسيرة غسان الصحفية:

بدأت مواهب غسان في الكتابة تظهر أمام الناس لأول مرة عن طريق مجلة “الرأي” التي أسسها مجموعة من أعضاء حركة القوميين العرب عام 1954 نتيجة لمحاولاتهم في تأسيس مقر للحركة في دمشق،[3] و كان غسان قد أصبح عضوا نشيطا لهذه الحركة بعد أن لقي جورج حبش رئيس حركة القوميين العرب في عام 1953. إنه ركز على القضية الفلسطينية التي أصبحت شغله الشاغل طول حياته غير المديدة منذ أول يوم أخذ القلم للكتابة.

و بعد أن انتقل غسان إلى الكويت للعمل في المعارف الكويتية عام 1955، رغم اشتغاله مدرسا للرسم والرياضة ، عمل في مجلة “الفجر” الأسبوعية التي كان يصدرها النادي الثقافي القومي و بعض المنظمات لحركة القوميين العرب في الكويت.[4] ثم بدأ يعمل محررا و ناشرا لصحيفة “الرأي” الناطقة بلسان حركة القوميين العرب في الكويت، و ظل يعمل فيها حتى عام 1960م حين غادر الكويت إلى بيروت.[5]

و في إحدى هاتين المجلتين، بدأ غسان يكتب التعليقات السياسية بـتوقيع “ابو العز” بعد أن زار العراق إثر الثورة العراقية التي قضى فيها الجيش العراقي في قيادة عبد الكريم قاسم على المملكة الهاشمية العراقية في 14 يوليو عام 1958، و رأى انحراف النظام والفساد المتفشي هناك. و مقالاته بهذا التوقيع استلفتت أنظار الناس و هي تدل على تطور فن الكتابة الصحفية لدى غسان خلال بضع سنوات تطورا ملحوظا فالذي بدأ حياته الصحفية مبكرا في عام 1954، قد ارتقى المراحل بسرعة فائقة واكتسب اعتماد قادة الحركة إلى حد كبير حتى نرى جورج حبش يدعوه إلى بيروت عام 1960 لينضم إلى أسرة تحرير مجلة “الحرية”، و يتولى مسؤوليات القسم الثقافي فيها.

مجلة “الحرية” كانت مجلة عربية أسبوعية صدرت في بيروت وقد اشترت امتيازها حركة القوميين العرب عام 1959، فأصدرت العدد الأول في 4 يناير عام 1960 للتعبير عن وجهة نظر الحركة.[6] و بقي غسان يعمل في هذه المجلة لثلاث سنوات خلالها ازداد اسم هذا الشاب الطموح لمعانا و شهرة في ميدان الصحافة حتى عُرضت عليه عام 1963 رئاسة تحرير جريدة “المحرر” اليومية التي كانت تعبر عن وجهة نظر الناصريين والقوى المتقدمة في لبنان.[7]

إنه تولى رئاسة تحرير جريدة “المحرر” البيروتية التي كانت تصدر في البداية أسبوعية في كل اثنين، ثم غدت تصدر بشكل يومي. و بعد توليه رئاسة التحرير، بدأ يصدر ملحقا لهذه الجريدة بإسم “فلسطين”. و قد صدر العدد الأول لهذا الملحق في 5/11/1964 و استمر في الصدور حتى 6/7/1967. و حسب قول أوس داؤد يعقوب، هذا الملحق السياسي، والتحليلي، والتثقيفي الذي كان يعبر عن موقف حركة القوميين العرب من مجمل القضايا الفلسطينية إلى حد كبير، كان يصدر نصف شهري بإشراف كنفاني،[8] حينما يذكر محمد صديق بأن هذا الملحق كان يصدر أسبىوعيا.[9] وعلى أي حال، كان هذا الملحق من نوع متفرد يهتم بالأدب الفلسطيني، ويدعو إلى حرب وقائية ضد العدو المحتل، ويوزع مع المحرر علنيا. إن مقالات غسان في هذا الملحق دلت على عنايته البالغة بقضية فلسطين، ولفتت أنظار الناس إليه كمفكر فلسطيني وصحفي جاد، فأصبح مرجعا للذين يهتمون بالقضايا الفلسطينية، من تاريخها، وأخبارها، وشؤونها، وأحداثها.

في عام 1967 إنضم غسان إلى مجلس تحرير جريدة “الأنوار” اليومية اللبنانية الرائدة، التي كانت تعبر عن وجهة نظر الناصريين، ، و تولى رئاسة تحرير ملحقها الأسبوعي، فيكتب لها الافتتاحية الأسبوعية الشهيرة.[10] وكذلك كان يكتب عمودا يوميا في الصفحة الأولى لمجلة “الأنوار” بعنوان “أنوار على الأحداث”، وكان هذا العمود خاصا بالقضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.[11]

مجلة الهدف:

في يوليو عام 1969، استقال غسان عن “الأنوار” ليتولى رئاسة تحرير مجلة “الهدف” الناطقة بلسان “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي كانت ولدت عقب حل حركة القوميين العرب عام 1967. كان غسان عضو المكتب السياسي لهذه الجبهة، و ناطقا رسميا بإسمها، فاشترت الجبهة امتياز هذه المجلة، التي كانت في الحقيقة مجلة سياسية يومية، بإسم غسان كنفاني لتكون لسان حالها.[12]

عندما دخلت هذه المجلة بحوزة الجبهة، و تولى غسان رئاسة تحريرها جعل يصدرها كل أسبوع بعشرين صفحة على قطع كبير- إلا أنه أصدرها خلال أحداث أيلول الجسام عام 1970 بشكل يومي لمدة تسعة أيام- وحولها إلى منبر للصحافة الثورية تهدف إلى توحيد القوى المتحاربة الفلسطينية، وتوجيه العمل السياسي والثوري بكل أنواعها إلى العدو المحتل، ونبذ جميع أنواع مشاريع المهاودة، والمساواة، والاستلام. وقد عبر غسان عن الغاية من إصدارها في عددها الأول الذي صدر 26 يوليو 1969، وهي كما يلي:[13]
الرفض لكل الصيغ العاجزة المتخذة حينا طابع المساواة، و حينا طابع المهاودة، وحينا ثالثا طابع الوسيطة، و اعتناق هذا الرفض الثوري أساسا للمعركة المصيرية.
إنها أتت ردا على الصناعة الإعلامية العربية التي اسقطتها القيم التجارية، وقيم المجتمع المنهار، وفي دوامة العجز والفشل.
أنها لم تسمح لمواقف الارتجال والانفعال المزايدة أن تحل مكان موقف الموضوعية والعلمية

فكما تبدو من الأهداف المذكورة أعلاه، كانت هذه المجلة مجلة ثورية ضد كل ضعف طرأ على موقف الشعب الفلسطيني والعربي تجاه الحرية والاستقلال بدون أية رعاية. وكانت لافتتاحيات غسان الجريئة دوية في المجتمع، و وقع على ملوك العرب، فقد تعرضت المجلة للمحاكمة مرات عديدة نتيجة لبعض افتتاحياته، و أودع غسان السجن في 17 تشرين الثاني عام 1972م بتهمة القدح و الذم والإساءة إلى ملكين عربيين. و عند غسان “هذه التهمة تفقد المقال قيمته، و تجعله بلا معنى، فالمقال ليس إلا نقدا لموقف سياسي مسؤول عن ذلك الملك الذي هو بدوره نتيجة منطقية لبنية النظام الذي يجلس على قمته.”[14]

و ركز غسان على القضايا العديدة من خلال مقالاته و افتتاحياته في هذه المجلة، و من أهمها ما يلي:[15]
الوضع الداخلي للثورة الفلسطينية من كافة جوانبها، ووحدة العمل الوطني الفلسطيني، والقضايا المختلفة التي تهم الشعب العربي و ظروف حياته.
تطور العمل الثوري المسلح، وتعبئة الجماهير، وتنظيمها، وتجهيزها لمعركة التحرير.
قضايا حركة التحرير الفلسطينية
فضح القوى الإمبريالية العالمية والصهيونية، والقوى الرجعية الحليفة لهما.
القضايا الثقافية، طبقية الأدب والفن، إبراز أدباء الأرض المحتلة، تسليط الأضواء على الأدب الصهيوني، النقد الأدبي.

لم يكتف غسان بكتابة الافتتاحيات فقط، بل تحمل مسؤوليات تحرير الأركان العديدة في هذه المجلة من أهمها أركان الأحداث العربية، وأركان الثقافة، رغم أن مرض السكر، والتهاب المفاصل قد نهش جسده الرقيق، و هو يذكر في حوار ظروفَ العمل المرهقة في هذه المجلة فيقول “إن العمل في المجلة مرهق جدا. هذا هو شعوري الآن و قد أتممت عدد هذا الأسبوع. إنني أشعر بالإرهاق، و أنه لأمر مروع لأي كان أن يعمل في مجلة كهذه. ففي اللحظة التي تنتهي فيها آخر جملة من العدد الآخر، تجد نفسك فجأة تجاه عشرين صفحة فارغة تملأها…و أنه لمن الصعب أن يصدق الآخرون بأن ثلاثة أشخاص فقط يقومون بتحرير الهدف. و هذه الحالة قائمة منذ ثلاث سنوات.”[16]

و أدت هذه الظروف والمسؤوليات المكثفة أن يختار غسان توقيعات مختلفة لنفسه بالإضافة إلى إسمه الحقيقي لملأ صفحات هذه المجلة، والمجلات الأخرى بما فيها مجلة “الشؤون الفلسطينية”، و مجلة “الصياد”. فكان يكتب بتوقيع “غ.ك.”، و “فارس فارس”، و “أبو العز”، و “أبو فايز” و بعض الإشارات. و ظل غسان يشتغل كرئيس تحرير هذه المجلة حتى استشهد في صباح الثامن من شهر تموز عام 1972.[17]

مقالات فارس فارس:

من كتابات غسان الصحفية، مقالات تمتاز بالنقد الساخر كتبها خلال خمس سنوات أخيرة من حياته بتوقيع مستعار. إنه كتب هذه المقالات الساخرة أولا في “ملحق الأنوار” الأسبوعي خلال العام 1968 بتوقيع “فارس فارس”، تحت عنوان عام هو “كلمة نقد”. ثم كتب بنفس التوقيع و بنفس العنوان في مجلة “الصياد” اعتبارا من أوائل شباط عام 1972 حتى أوائل تموز من نفس العام حين استشهد.[18] و قد جمع هذه المقالات الأستاذ محمد دكروب في كتاب بعنوان “مقالات فارس فارس: كتابات ساخرة”، و نشرها مع مقدمة قيمة. و يجب التنويه هنا بأن تناولي لكتابات غسان الساخرة بالتالي يعتمد إلى هذا الكتاب الذي طبعته دار الآداب ببيروت عام 1996 لأول مرة.

و هذه المقالات الساخرة التي كتبها بتوقيع “فارس فارس” لم تظهر بالمصادفة، و لم يتجه غسان الجاد إلى كتابة السخرية بصورة مفاجئة، بل نجد عنده قبل ظهور هذه المقالات بوادر السخرية في شكل يومياته التي كان نشرها في جريدة “المحرر” اليومية خلال العام 1965 تحت عنوان “بإيجاز”، بتوقيع “أ.ف.” اي “أبو فايز”، و فائز هو إسم ابنه الذي ولد في عام 1961. و يقول محمد دكروب عن هذه اليوميات: “الطابع العام لهذه اليوميات هو التناول الساخر لجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية مع إطلالات نادرة و خفيفة على الحياة الثقافية. و لعل هذه اليوميات كانت بمثابة بروفة في الكتابة الساخرة مهدت لظهور فارس فارس و مقالاته النقدية الأكثر تنوعا و عمقا و نضجا.”[19] فهذه اليوميات، التي تدل على دراما الحياة والموت، كانت التجربة الأولى لغسان في مجال الكتابة الساخرة، النوع الأدبي الذي كان مفقودا في الأدب العربي المعاصر.

و لفهم مدى السخرية في هذه اليوميات، ونوعيتها، أعرض هناك نموذجا من دفتر يومياته. إنه كان كتب هذه اليومية بعنوان “السبب الحقيقي وراء الأزمة”، وهي كما يلي:[20]

“يجب أن يفهم الناس أن عدم اكتراث أعضاء الحكومة بأزمة الغلاء في البلد يعود إلى سبب بسيط وهو أنهم يقومون بتطبيق ريجيم غذائي بناء على نصائح الأطباء، و لذلك فهم يأكلون خضرة مسلوقة دون دهن، و دون لحم، في محاولة يائسة لتذويب كروشهم. و هم لن يقولوا للناس “كلوا بسكوت إذن” لأنهم أنفسهم لا يأكلون البسكوت، بناء على تعليمات الريجيم. و كذلك فإن غلاء أجور المواصلات في البوسطات الجديدة يعود إلى سبب مماثل وهو أن معاليهم يفضلون المشي، للغايات الريجيمية نفسها. و لذلك فليس هناك أي سوء نية في الموضوع، والصحف التي تتحامل على الحكومة ليس عندها أي ذوق ولا تقدير، يعني أنها لا تهتم بالقضية الأساسية القائمة الآن وهي تذويب كروش أركان الحكومة. صحيح أن الصحف لا تتعاطف مع الحكومة، ولا تقدر ظروفها واهتماماتها وهمومها، ولا تتعمق في البحث عن سبب عدم اكتراث الحكومة بأزمة الغذاء.”

كتب غسان هذه اليومية في 9 أبريل 1965، و تناول فيها أزمة الغلاء في بلده بطريق ساخر، وبإيجاز مازحا من كروش أركان الحكومة، والريجيم الغذائي الذي يختارونه لتذويب كروشهم، كأن القضية الأساسية القائمة ليست الغلاء بل تذويب الكروش.

على أساس هذه اليوميات الساخرة، بنى غسان صرخا شامخا في مجال السخرية في السنوات التالية. كان غسان يأنس إلى هذا الصرخ مرة كل أسبوع بقناع “فارس فارس” انفلاتا من وطأة المستلزمات النضالية، وموجات الحزن في زمان فُجع العرب بهزيمة حزيران عام 1967، و يبدو كأن غسان اختار لنفسه طريقا غير طريق اليأس والإحباط العام في ذلك الحين، كما يقول محمد دكروب في مقدمته لـمجموعة “مقالات فارس فارس”:

“تحت قناع فارس فارس هذا، كان غسان ينطلق على هواه، يتحرر إلى حد كبير من صفة كونه: غسان كنفاني المناضل الفلسطيني الحزبي الملتزم والمسؤول…ينتقد، وينكر، ويسخر، ويتمسخر، ويفضح، ويكشف الزّيف-في الفن وفي الموقف- بما لم يكن ليتيح لنفسه أن يكتبه تحت خيمة إسمه المعروف…فتظنه انزلق على هواه الفردي المحض. ولكنك إذا تابعت هذه الصفحات متمعنا، ومتذوقا، ترى أن الساخر فارس فارس يلتزم بأعلى درجات الأمانة للخط النضالي الفكري السياسي، والفني خصوصا لغسان كنفاني.”[21]

وهذه المقالات التي عالجت الأعمال الأدبية، والفكرية والفنية، حينا بسخرية ضاحكة وحينا آخر بسخرية جارحة، كانت من نوع فريد بالنسبة للنقد الأدبي العربي، فالأدب الساخر يندر في الأدب العربي، والأدباء لا يأخذونه بعين الاعتبار، فعندهم، هذا خارج عن مجالات الأدب لأنه يتعارض مع وقار الأدب والإبداع.

كانت هذه المقالات تدل على اطلاع غسان الواسع العميق على آخر تيارات الفكر والفن، و متابعته المتواصلة للصراعات التجديدية التي حفل بها العقد السابع من القرن الماضي، كما يقول عادل الأسطة: “يبدو كنفاني في مقالاته قارئاً جيداً ومتابعاً حثيثاً لما كانت المطابع العربية في لبنان تطبعه، وقد أقرّ هو بهذه الخصلة، خصلة القراءة والمتابعة. كان قارئاً نهماً….. ولديه حسّ نقدي، ويبدو إنساناً طالعاً من بين الناس، ذا موقف ملتزم، وفوق هذا يبدو كاتباً ساخراً متهكّماً.”[22] وفي هذه المقالات كان غسان منفتحا على الأفق العربي بكل سعته فيتناول الإنتاجات الأدبية والفنية، والأعمال الفكرية والسياسية من أنحاء الأقطار العربية والعالمية، ويستعرضها استعراضا نقديا ساخرا.

و قول غسان في هذه المقالات، كان يستند إلى المعرفة و يصدر عن دراية، وتأمل، و ذلك جعله ناقدا أدبيا لماحا يتصف بتذوق فني رفيع، و بخفة الدم، و يميز بين عناصر الإبداع والأصالة و بين عناصر الضحالة والاصطناع واللاموهوبة بكل مهارة ونجاح، وبسليقة سخرية فائقة. وسليقة السخر عنده –كما يقول محمد دكروب- “كانت تميل به إلى التفتيش عن أعمال أدبية تتيح له ضحالتها، وادعاءاتها وتفاهتها.”[23]

ونجد في ثنايا مقالات فارس فارس، أنه عبر عن بعض آرائه في النقد الساخر، فيقول في مكان “الأدب الساخر ليس تسلية، و ليس قتلا للوقت، ولكنه درجة عالية من النقد”. و يقول في مكان آخر “السخرية ليست تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي و بين الكاتب الساخر يشابه الفرق بين الحنطور والطائرة، و إذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحي مهرجا.” و يقول “كى يستطيع الكاتب أن ينقد بسخرية فإنه أولا يجب أن يمتلك تصورا لما هو أفضل، أو لما كان يجب أن يكون.” و في رأيه “إن فن السخرية هو أصعب فنون الكتابة على الإطلاق، إذ المطلوب من الكاتب أن يقنع القارئ-بالإضافة إلى جميع البنود المعروفة في الكتابة-بأن دمه خفيف.” و يقول “إن الجملة الساخرة الأفضل هي الجملة التي يبذل فيها جهد أكثر.”[24]

و نرى في الأمثلة التالية كيف جملة واحدة تستطيع أن تجبر القارئ على الابتسامة والقهقهة، فيقول غسان وهو يتناول كتاب الشيخ أمين بن نخلة الزمخشري المسمى بـ”الهواء الطلق”:

“وها هو ذا رجل يساوي ثقله ذهبا، مثل الآثار القديمة و أنت إذ تقرأ كتاباته تصاب بدهشة ما بعدها دهشة، كأنك و أنت تنقب عن الآثار القديمة تحت جبل من الركام والرمل، تفتح حجرا فترى هناك، بين الفخار المكسور والعظام، و صفائح الرق، رجلا يقول لك: السلام عليكم! و مع أن أمين نخلة يسمى كتابه (في الهواء الطلق ) فإن القارئ في الواقع لا يشعر بذلك أبدا، ليس هواء ولا من يتهوون، وليس طلقا ولا من ينطلقون.”[25]

و يقول غسان، وهو يتناول كتاب مصطفى أبو لبده”ليس في الكتاب أكثر مما في عنوانه إلا من حيث الكم.”[26] ويقول وهو يقوم بتحليل كتاب عبد الكريم الجهيمان المعنون بـ”من أساطيرنا الشعبية في قلب جزيرة العرب” الذي احتوى على 27 أسطورة: ” للمؤلف 27 أسطورة، وهو شخصيا الأسطورة الـ28.”

و يقول وهو يتناول كتاب ملحم قربان في أبحاث فلسفية: “إن الدكتور قربان يريد أن يثبت أن فلاسفة العالم في بحثهم عن الحقيقة يشتبهون رجلا معصوب العينين يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة……ولكن الدكتور قربان نفسه، في هذا البحث، يشبه رجلا معصوب العينين يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء..غير موجودة فيها.”[27]

إنه يتحول في هذه المقالات من السخرية إلى الجدية الممتزجة بالسخرية في كثير من الأحيان حين يرى الانتاجات في الأدب والفن التي تراعي الفن، و تصدر عن موهبة فياضة، كما نراه يبدو معجبا كثيرا برؤية “خمسة أصوات” لـ”طعمة غائب فرمان” فيقول: “أنا لا أعرف إسم المؤلف، ولم أسمع عنه قبل الآن، إنني حين اشتريت الرواية قلت للبائع إن الإسم لا يوحي إلى بشيئ، وأنه من الغريب أن يطمح رجل إسمه “غائب” بأن يكون “حاضرا” في عالم الإنتاج الأدبي، أو يكون لدى شخص إسمه الثاني “فرمان” طموع أعلى من أن يتوظف ككاتب في دائرة الطابق الطابعة للباب العالي. و مع ذلك فقد غامرت و اشتريت الكتاب بخمس ليرات لأن اسمه جميل، لأنني كنت أفتش عن رواية أنشرها نشرا في هذه الزاوية التي ولدت لئيمة، و ستموت كذلك.” ثم يعبر فارس فارس عن مدى تأثره بهذه الرواية فيقول: “منذ السطر الأول لهذه الرواية التي تطول إلى 295 صفحة شعرت أنني بين أصابع رجل موهوب، أخذني في رحلة إلى أعماق العراق، و أعماق أناسها، و رد للأدب المعاصر في ذلك البلد السباق دائما في الانتاج الفني قيمته و معناه، و أعطاني شيئا كنت أفتش عنه دائما و عبثا أن أجده!”

و بعد ذكر إعجابه بهذه الرواية، يقصد فارس فارس الخروج عن إطار هذا العمود الساخر، و يظهر في الزي الجاد اعترافا بالمستوى الفني لهذه الرواية، وإظهارا لإعجابه العميق بها، فيقول: “فلذلك كله، أيها السادة، قررت أن أخرج من طابع الزاوية هذه المرة على الأقل لأبرهن لأولئك الذين يعتقدون أن الله سبحانه و تعالى خلقني شتاما أنهم مخطئون، وأن الذي يجعلني أشتم هو نوع الانتاج الأدبي الذي يستحق الشتم، فأنا في الواقع مرآة للأشياء، و لست مطبلا مزمرا لها.”[28]

و شخصية فارس فارس لم تظهر في زيها الحقيقي أي بزي غسان إلا بعد استشهاده، و عندئذ عرف الناس أن غسان كنفاني هو الذي كان يظهر في زي “فارس فارس”. والمقالة الأخيرة التي كتبها غسان بتوقيع فارس فارس ظهرت بعد اغتياله بأسبوع في مجلة “الصياد”، في 16 تموز 1972، بعنوان “ملحمة المعزاية والذئب”. وهذه المجلة للمرة الأولى والأخيرة كشفت قناعا عن وجه فارس فارس، وأوضحت بإسم غسان كنفاني فتقول: “هذا المقال الذي كتبه غسان قبل أيام من استشهاده، لم يكن مقدرا له أن يكون المقال الأخير بإسم فارس فارس…ولم يكن مقدرا له أيضا أن ينشر بإسم كاتبه الحقيقي.”[29] فلم يكن يعرف القراء إلا عدد قليل منهم أن فارس فارس هو غسان كنفاني كما تحدث غسان كنفاني نفسه عن ذلك: “البعض يقول إن فارس هو شخص غير حقيقي (أ تراني شبحا دون أن تعرف أمي ذلك؟).. والبعض يقول إن إسمي مستعار (لمجرد أنهم لم يتعرفوا علي شخصيا)، والبعض يقول إن أحدهم يكتب لي (لماذا؟)…خلال هذه الفترة راح عدد من الناس ضحية هذه الاتهامات ما عداى!.و إذا كان صحيحا أن بعض المتهمين غيروا آراءهم حين قابلوني وتحققوا من تذكرة هويتي طلوعا ونزولا، و نظروا إلى من فوق لتحت غير مصدقين (لأنني أبدو في الأحوال العادية مهذبا جدا) فإن غيرهم ممن لن تتح حتى الآن فرصة مقابلتهم قد راحوا يتهمون غيري بي.. فكم عانى الأستاذ كنفاني/غسان/ من هذه الاتهامات، و كم انصبت الشتائم على رأس الأستاذ جرداق/جورج بسببي، و كم سمع الأستاذ غانم/روبير، سكرتير تحرير ملحق الأنوار/ كلمات هائلة على التلفون…و في كل هذه الحالات كنت سعيدا حقا.”[30]

فكان القراء الكثيرون لم يكن يعرفون الكاتب المختفي خلف توقيع فارس فارس، و لم ينكشف ذلك بصورة جلية إلا بعد استشهاد غسان عن طريق بعض أصدقاءه، و عندما نشرت مجلة “الصياد” مقاله الأخير بإسمه الصريح. و بما أن شخصية فارس فارس ظهرت بشكل غسان كنفاي، كان هذا المقال الأخير يحمل الطابع العام لكتابات غسان، فنراه يرفع القناع عن العصبية المتأصلة في الإعلام الغربي ضد العرب والفلسطينين، ويذكر انحياز الإعلام الغربي المتعصب إلى جانب إسرائيل الغاصب في سياق قصف إسرائيل القنابل من وزن 2500 رطل فوق بيوت اللبن والطين في دير العشاير، فيقول:

“أثناء ذلك، كان محرروا “الإكسبرس” الفرنسية يحللون هجمات المقاومة بقولهم: “إن الطائفة الأرثوذكسية في العالم العربي قد تأثرت بالإسلام، إلى حد صارت تسمح لنفسها بالقيام بعمليات همجية ضد الآمنين المدنيين المتربعين بهدوء و سلام فوق الأراضي المحتلة.”..و قلت لنفسي: يا سلام كيف ينحدر العقل الغربي حين يصبح مرشوا وجبانا، ألا يشبه هذا الكلام كلام هتلر، و روزنبرغ و أمثالهما؟ على أن الإكسبرس نفسها لم تذكر حرفا واحدا عندما زخ مطر الموت فوق فرويي الجنوب العزل، و أطلقت على تلك العملية البربرية إسم “رد عسكري”. قلنا: لعل “التايم” على انحيازها، لم تنحط إلى درجة جنون “إكسبرس” و “النوفيل أوبزرفاتور”، فإذا بنا نستفتح بالعبارة التالية: لماذا يجب أن يقتل يابانيون حجاجا بورتوريكيين لمجرد أن العرب يكرهون اليهود؟ قلت: عجبا! ألم يكن بوسع الكاتب أن يقول: لمجرد أن العرب و اليهود يكرهون بعضهم بعضا؟” إذا شاءت الموضوعية المزيفة؟”

“و صباح اليوم الذي تلاه، قلنا: لعل إذاعة لندن معقولة أكثر..فإذا بها ألعن وألعن..أما نشرتها بالإنكليزية فلم تشأ أن تزعج أفكار السادة سكان لندن، فلم تذكر شيئا، ولا حرفا واحدا، عن المئات الذين ماتوا تحت قصف الطائرات الإسرائيلية أثناء العدوان على جنوب لبنان.”

“لجأنا إلى “النيويورك تايمز”، و إلى “الإيكونوميست”، إلى الفيغارو، و إلى “اللوموند”، إلى “ستامبا”، إلى “دي فليب”، و كانت الشعار المستتر واحدا، وهو الشعار الذي يجد رواجا كبيرا هذه الأيام: “إن العربي الجيد هو فقط العربي الميت!”.

“قلت: قرأت الصحف، و قرأت تعليقاتها إثر حادث مطار اللد الأول، ثم حادث مطار اللد الثاني، ثم حوادث الاعتداءات الإسرائيلية. و طويت الجرائد و أنا أنفخ غيظا، إذ إن هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة. و بعد ملايين السنين من انحدارنا من العصور الحجرية، ما زالت القاعدة الذهبية إياها هي الصحيحة: إن صاحب الحجر الأكبر، و حامل العصا الأتخن، والبلطجي الشراني هو الذي معه حق.”[31]

و ليس في هذا المقال فقط، بل طابع غسان العام متواجد في مقالاته الساخرة هذه أيضا في كثير من الأحيان كما يقول محمد دكروب: “أن واحة فارس فارس، التي خلقها غسان كنفاني ليفئ اليها، مرة في الأسبوع، متخففا من أعباء ومسؤوليات إسمه وصفته الحزبية النضالية والقيادية في حركة التحرير الفلسطيني.. كانت، في حقيقتها ومسارها، ذهابا أعمق في اتجاه القضية نفسها، وأن مفاعيل الهزيمة، سلبا وإيجابا، حاضرة في النسيج العميق لهذه الكتابات كلها، و حاضرة كذلك و بصورة مباشرة في عدد من الجدالات ذات اللغة الساخرة و ذات الطابع الجدي، على حد سواء.”[32]

نظرة غسان إلى الصحافة:

و كان غسان يَعتبر الإعلام إحدى معارك المقاومة كما يقول في مقال له :”إن الإعلام معركة. و بالنسبة لنا، فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصارا إذا ما جرى خوضها من خلال المبادرة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهريا ضد قضايانا. إننا في حالة حرب، و هي بالنسبة للفلسطينيين، على الأقل، مسألة حياة أو موت.”[33]

مراجع البحث: 

[1] الأهرام الأسبوعي، العدد 594، 11-17 يوليو 2002

[2] حنا مقبل، ندوة “غسان كنفاني..قال الوعي الفلسطيني”، مجلة “الهدف”، العدد 496، 11تموز، 1981، صـ35.

[3] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23

[4] نفس المصدر، صـ 23.

[5] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no.95-96.

[6] الأسدي، عبده، دليل صحافة المقاومة الفلسطينية (1965-1995)، دار النمير للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 1998، صـ 57.

[7] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 97.

[8] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23.

[9] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no.97.

[10] نفس المصدر، صـ 98.

[11] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23.

[12] الأسدي، عبده، دليل صحافة المقاومة الفلسطينية (1965-1995)، دار النمير للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 1998، صـ 171.

[13] نفس المصدر، صـ 171.

[14] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 28.

[15] نفس المصدر، صـ 29.

[16] نفس المصدر، صـ 28.

[17] كنفاني غسان، حول قضية أبو حميدو و قضاى التعامل الإعلامي والثقافي مع العدو، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 12، آب 1972م.

[18] كنفاني، غسان، مقالات فارس فارس، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996، صـ 5.

[19] نفس المصدر، صـ 236.

[20] نفس المصدر، صـ 238.

[21] نفس المصدر، صـ 8.

[22] عادل الأسطة، غسّان كنفاني: “فارس فارس”، صحيفة الأيام، تاريخ 13/04/2013

[23] كنفاني، غسان، مقالات فارس فارس، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996، صـ 13.

[24] نفس المصدر، صـ 9-10.

[25] نفس المصدر، صـ 40.

[26] نفس المصدر، صـ 46.

[27] نفس المصدر، صـ 54.

[28] نفس المصدر، صـ 49-51

[29] نفس المصدر، صـ 232.

[30] نفس المصدر، صـ 11.

[31] نفس المصدر، صـ 232-235.

[32] نفس المصدر، صـ 23-24.

[33] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 28.

رابط النشر: http://www.aqlamalhind.com/?p=884





ريادة غسان كنفاني في دراسة أدب المقاومة، والأدب الصهيوني في ضوء دراساته



ريادة غسان كنفاني في دراسة أدب المقاومة، والأدب الصهيوني في ضوء دراساته


في العقد السابع من القرن العشرين، أصدر غسان كنفاني دراستين اكتشف فيهما لأول مرة الإنتاجات الأدبية المتواجدة في الأرض المحتلة التي كانت صلتها بالعالم العربي قد انقطعت بعد الاحتلال الصهيوني. فإنه، عن طريق هاتين الدراستين، فتح للعرب نافذة على الأدب العربي الفلسطيني الذي مليئ بالحيوية والأفكار الثورية، و رغم كل أسباب القمع لا يخلو عن الأمل والإيمان بالنجاة.

أدب المقاومة:

أما الدراسة الأولى، فقد صدرت من دار الآداب بـ”بيروت” عام 1966م بعنوان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و هي تحتوي على ثلاثة فصول، الفصل الأول يتناول الإنتاجات الأدبية الفلسطينية بعد النكبة، والثاني يدرس البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر الفلسطيني.

و هذه الدراسة تعطي غسان مكان الريادة من ناحيتين، في ناحية إنه وضع مصطلحا خاصا للانتاجات الأدبية الثورية التي وجدت في فلسطين المحتلة لأول مرة، و هو مصطلح “أدب المقاومة” كما يبدو من عنوان دراسته. فقد عبر غسان عن الأدب الفلسطيني بـ”أدب المقاومة” لأن هذا الأدب يقوم ضد جميع أسباب القمع، و يشجع على الوقوف في وجه الاحتلال، و يحرض على الثورة، والمشي في سبيل الحرية رغم أن الطريقة شائكة. و هذا المصلطح الخاص لم يقتصر على الأدب العربي، بل سرعان ما سرى إلى الآداب العالمية الأخرى و تلقي بالقبول في الدول المحتلة من العالم. و قد اعترف بريادة غسان في هذا المجال النقاد الكثيرون، بل لا أبالغ إذا قلت أنه لا تخلو أية دراسة من دراسات أدب المقاومة عن ذكر غسان، فهو يمثل اللبنة الأولى التي قام عليها القصر الشامخ لأدب المقاومة.

و من ناحية أخرى، إنه عرض الأدب العربي الفلسطيني أمام العالم العربي لأول مرة و أتاح الفرصة لقراء العربية أن يتعرفوا على هذا الأدب الفلسطيني الذي أكثر مقاوما من الأدب العربي في أي مكان آخر.

كان غسان قد كتب هذه الدراسة قبل نكسة 1967 التي انهزمت فيها القوات العربية على يدى إسرائيل و أتاحت لها الفرصة أن تحتل غزة، و نهر الأردن، و الضفة الغربية. و بما أن المصادر لم تكن متوفرة بسبب الحدود الإسرائيلية المغلقة على العرب، والقمع الإسرائيلي للعرب في داخل إسرائيل، إنه سمى الأوضاع التي كان الفلسطينيون يعيشون فيها في الأرض المحتلة بـ”الحصار الثقافي”، و في الحقيقة دراسته هذه تبدو كأنها نقب في هذا الحصار إذ حاول أن تكون دراسته هذه وثيقة أكثر من أن تكون تحليلا نقديا للنص الوارد فيها.

لم يختر غسان منهجا أكاديميا في هذه الدراسة بل سلك سبيله في جمع المواد و حفظها بصورة تكون وثيقة للأجيال القادمة التي قد تفقد هذا التراث القيم بسبب الظروف القاسية التي كان يمر بها الأدباء والكتاب والشعراء الفلسطينيون.

و لم يقصر كنفاني “مصطلح أدب المقاومة” على الأدب العربي الفصيح فقط بل أطلقه على الشعر الشعبي أيضا الذي يمثل عنده قلعة المقاومة التي لا تهدم، فقد تناقلته الأجيال عن طريق الحفظ، و تغنت بها الأمهات لأبنائها الناشئين، والفتيات لإخوانها الصغار.

إنه يميز في هذه الدراسة بين الأدب الذي كتب في الأرض المحتلة و سماه “أدب الاحتلال”، و الأدب الذي كتب في أرض الشتات و في المنافي و المخيمات و سماه بـ”أدب المنفى”، و عنده أدب الأرض المحتلة أدب الإشراق، والثورة، والأمل حينما أدب المنفى عبارة عن النواح والبكاء، و اليأس والحنين إلى الوطن. و تقول باربارا هارلو “هذا التمييز يدل على علاقة أناس الخاصة بالأرض المشتركة، وبالهوية المشتركة، و بالقضية المشتركة بينهم، و على أساس هذا الاشتراك، يمكن الفصل بين شكلين من الوجود التاريخي والسياسي، و هما الاحتلال والمنفى. و هذا التمييز يدل على قوة محتلة أخضعت شعبا أو نفتهم، و بالإضافة إلى ذلك، إنها تدخلت في التطور الأدبي والثقافي للذين سلبت أراضيهم، و احتلت مناطقهم. و في ألفاظ أخرى، إن الناقد (غسان كنفاني) قد عرض الأدب كمجال للكفاح.”[1]

في عام 1966 عندما كتب كنفاني دراسته هذه، كان أدب الأرض المحتلة مجهولا في العالم العربي و غير معروف خارج الحدود الإسرائيلية بسبب القيود الرسمية و القمعية. و لذلك ركز كنفاني عمله و جهوده على توثيق الانتاجات الأدبية الفلسطينية التي ولدت تحت السلطة الإسرائيلية التي أطلق عليها غسان مصطلح “الحصار الثقافي”. و نفس الأوضاع السياسية التي قامت بتحديد الانتاجات الأدبية في إسرائيل، أدت دورا مهما في تحديد الموازين و والمناهج في الكتابة النقدية الأدبية الفلسطينية في المنفى.

الأدب الفلسطيي المقاوم:

أما دراسته الثانية التي صدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، لأول مرة عام 1968 بعنوان “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، فكانت خطوة ثانية في هذا المجال كما يوضح ذلك غسان في مقدمتها “لا بد من الإشارة إلى أن البحث التالي ليس طبعة جديدة أو منقحة لكتابي الذي أصدرته دار الآداب باسم أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، بل يمكن اعتباره إلى حد بعيد دراسة مكملة، خطوة ثانية في هذا النطاق، ولا يسعني إلا أن أشير إلى أن الكتاب الأول يعتبر مقدمة ضرورية لهذا الكتاب، سواء من حيث التحليل أو من حيث النماذج.”[2]

كتب غسان هذه الدراسة بعد الدراسة الأولى بسنتين، و استفاد من الحدود الإسرائيلية المفتوحة حديثا بين إسرائيل والضفة الغربية، و أكد على العلاقة المتكاملة بين المقاومة المسلحة و المقاومة الأدبية،[3] و ادعى على أنه “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض.” إنه يضع الخصوصية التاريخية لحركة المقاومة ضمن النضال الأكبر الجماعية في جميع أنحاء العالم، و يؤكد على أهمية الأشكال المعينة للمقاومة الثقافية في تحديد الاستراتيجيات العامة للمنظمة المقاومة كما يقول “إذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، و إرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف.” ولدى كنفاني “إن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها.”[4]

و حاول كنفاني أن تكون نماذجها غير النماذج التي كانت قد أصبحت متوفرة إثر النكسة كما يقول بنفسه “إن معظم النماذج التي اخترناها في هذه المجموعة حرصنا على أن تكون من خارج نطاق النماذج التي باتت متوفرة الآن، والتي ستطبع في مجموعات شعرية منفصلة خلال الفترة الوجيزة القادمة.”[5]

و هذه الدراسة التي تحمل عنوانا تتشابه بالدراسة الأولى، تناولت نفس الموضوع و عرضت الأدب الفلسطيني المقاوم على الطريقة التي عرضت الدراسة الأولى، و هي لا تختلف من الأولى من حيث النقد والتحليل إلا أنها تفرد فصلا لدراسة الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة حينما كانت الدراسة الأولى قد خصت فصلا لدراسة البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني. و غسان قد تكلم عن نوعية هذا البحث في المقدمة فيقول “إن ما يهم هذه الدراسة، في الأساس، هو أنها تحاول تقديم وثيقة أخرى للأدب الفلسطيني المقاوم بعد الوثيقة الأولى التي جاءت قبل ثلاث سنوات في كتاب أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فإذا حققت ذلك فإنها لا تطمع إلى شيئ آخر.”[6]

فصول الدراسة:

إن هذه الدراسة تتضمن على ثلاثة فصول يتناول أولها الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة، والثاني يدرس أبعاد و ومواقف أدب المقاومة الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر، والقصة، المسرحية.

الفصل الأول: الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة

كما يبدو من عنوان هذا الفصل، إنه عرض الأوضاع الخطرة التي كان ولا يزال يعيش فيها الشعب العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة عرضا مقنعا كباحث عن طريق استخدام المصادر والمراجع بما فيها المجلات والوثائق والتقارير المختلفة. إنه أطلق على هذه الأوضاع مصطلح “النضال الثقافي” و ذكر الدور الذي لعبت هذه الأوضاع في الانتاج الأدبي العربي كما يقول: “إن الحرب النفسية، والاقتصادية، والسياسية، والبدنية التي تشنها السلطات الإسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي في فلسطين المحتلة على الصورة التي سنراها، و من ذلك اللجوء غالبا إلى الرمز.”[7]

و حاولت حسب مقدوري أن أقوم بتحديد أنواع الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب العربي المسلم والتي ذكرها غسان في هذا الفصل، و هي -حسب دراستي لهذا الفصل- كما يلي:

أولا: سياسة التجهيل المتعمد
عدم تعليم اللغة العربية في المعاهد والمدارس الرسمية
تخفيض مستوى المدارس العربية عن قصد
تهديد الطلاب في الجامعات والكليات
إغلاق أبواب الكليات والجامعات الإسرائيلية على المسلمين

ثانيا: نسف الجذور الثقافية العربية
إلقاء المثقفين العرب خلف القضبان و الإقامة الجبرية.
طرد المثقفين العرب عن الوظائف و الرقابة على انتاجاتهم
حقن المجتمع العربي بسموم الثقافة الهجينة
الدعوة إلى ترك اللغة العربية الفصحى.

ثالثا: نهب الوسائل الاقتصادية
إضاقة الخناق على خريجى المدارس و تحريمهم عن الوظائف
امتلاك أراضي العرب جبرا
طرد المثقفين العرب عن الوظائف

الفصل الثاني: أدب المقاومة الفلسطيني: أبعاد و مواقف

بعد عرض أنواع الحروب التي تشنها إسرائيل على سكانها العرب في الفصل الأول، اتجه غسان إلى تناول الأدب الفلسطيني المقاوم الذي يكافح ضد عمليات إسرائيل الشنيعة، و تكلم في كيفية مواجهته للتحديات الإسرائيلية، و تحدث عن الأبعاد و المواقف لهذا الأدب الفلسطيني المقاوم الذي برز إلى حيز الوجود لالتزام الشعراء والأدباء بقضيتهم رغم كل أسباب القمع كما يقول كنفاني: “الغالبية الساحقة من أدباء المقاومة في فلسطين المحتلة يمدون التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، إنهم منتسبون فعلا إلى الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى، و يناضلون من خلال تنظيماتها، و يذوقون في سبيلها، نتائج القمع الإسرائيلي، لقد بات معروفا – مثلا – أن الشاعر محمود درويش قد أودع السجن مرارا، و أن الشاعر سميح القاسم قد ذاق بدوره مرارة الأحكام العسكرية. و قد مارست الحكومة الإسرائيلية ضغطا متواصلا على شركة أهلية لتطرد من بين موظفيها الشاعر فوزي الأسمر بسبب شعره، و نضاله السياسي معا.”[8]

و قد ذكر غسان عدة أبعادا لهذا الأدب المكافح في مقدمتها كما يلي:
البعدلاجتماعي
البعد العربي
البعد العالمي

البعد الاجتماعي: يقصد غسان بالبعد الاجتماعي تناول الأديب الفلسطيني قضايا التقاليد الكابحة داخل المؤسسة الاجتماعية العربية، و رفضها في سبيل تجديد دماء المجتع العربي ليكون قادرا على مواصلة مسؤوليات المقاومة، والمضي فيها إلى مداها، و ذلك في مقاومة و مكافحة للمحاولات الإسرائيلية في تفتيت المجتمع العربي في الأرض المحتلة و تأليبه على بعضه. و قد أورد غسان في هذا المجال شعر سميح القاسم، و محمود درويش، وراشد حسن ثم قال:

“في الخمسينات سنقرأ شعرا كثيرا، في الأرض المحتلة، يركز تركيزا متواصلا على قطاع ضيق من الإشكال الاجتماعي، و في هذا النطاق ترد أسماء القاسم و الدرويش، و حسين، و كذلك فهد أبو خضرة (و هو شاعر موهوب و صاعد لم نعد نسمع عنه)، و أحمد حسين، و عصام عباس، و إبراهيم مؤيد، و غيرهم كثيرون.

و لكن بعد ذلك بعدة سنوات سيأخذ ذلك التنبه الجزئي آفاقه الأبعد، و أبعاده الأعمق، و ففي ذلك الوقت المبكر كانت الكارثة الفلسطينية ما تزال حارة، و كان الغضب المجرد، بصورة فاجعة و مذهلة، يطفو إلى السطح، شأنه في ذلك شأن ما حدث في أعقاب 5 حزيران 1967 في البلاد العربية حين مضى عدد من الكتاب والشعراء يصبون غضبهم على جبهة جزئية، إلا أن ذلك الغضب ما لبث أن تبلور في صيغة موقف، و مما لا شك فيه أن محمود درويش، و سميح القاسم هما طليعة لافتة للنظر في هذا الشأن.”[9]

البعد العالمي: هو تناول الشعراء الفلسطينيين لقضايا الاحتلال خارج بلدهم، و تأثرهم بالثورات التي قامت في البلدان المحتلة الأخرى في العالم، و انسجامهم مع أولئك الثائرين، كما يقول غسان: “عالميا يدرك شعر المقاومة التزامه بحركة الثورة في العالم، التي هي في نهاية المطاف المناخ الذي تنمو داخله الحركة الثورية المحلية، تؤثر به و تتأثر منه.”[10] و نجد قصائد كثيرة لدى شعراء الأرض المحتلة في هذا الشأن، فلمحمود درويش قصائد في ثورات كوبا منها “أناشيد كوبية”، و ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة” في معظمه غناء لثورات إفريقيا، و لفوزي الأسمر قصائد بهذا المعنى، أبرزها، “أنا عبد” موجهة لشعب إفريقيا، و لسميح القاسم عدة قصائد عن باتريس لومومبا، و إفريقيا، و زنوج أميركا، و له أيضا في قصيدته الطويلة “ارم” مقطع أسمه “بطاقات إلى ميادين المعركة” و هي سلسلة من القصائد القصيرة الموجهة إلى المغني الزنجي بول روبنسون، و فيدل كاسترو، و كريستوف غبانيا، و ثوار الفيتكونغ. و في هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا “”بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان” و قصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد إسمها “أنشودة زنجي”، و نجد عددا كبيرا من القصائد، في نفس النطاق، لمحمود دسوقي، و قصائد ذا أهمية قصوى لحنا أبو حنا عن كوبا و عن إفريقيا المشرقة.[11]

و يقول غسان عن هذا البعد: “إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائما من ميزات شعر المقاومة، و مع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد إلى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه و أعطاه معنى و عمقا و حافزا.” و يضيف قائلا: “إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه إلى وعي الالتزام بالثورة المحية، و ليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، و هذا الإدراك الذي عبر عنه أدب المقاومة العربي بوضوح و مباشرة و حسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزا و مسؤولية، في آن واحد.”[12]

البعد العربي: أما البعد العربي فهو عناية أدباء الأرض المحتلة البالغة بالثورات و التحولات و القضايا في العالم العربي كما يقول غسان “الأمر يختلف من حيث الكم و النوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، و هو البعد العربي. إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.”

في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دن أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، و كذلك كانت ثورة الجزائر، و ثورة اليمن، و بناء السد العالي، و في هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.”[13]

قد ساق غسان في هذا السياق قصائد عديدة تتعلق بالعدوان الثلاثي على مصر(1958)، و بالثورة الجزائرية، وثورة العراق(1956) للشعرءا البارزين من أمثال محمود درويش، سميح القاسم، و عصام عباسي، و حبيب قهوجي، محمود دسوقي. و بعد ذكر هذه القصائد، والبحث في بنائها الفني يقول كنفاني: “و في الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني كان دائما ظاهرة أساسية. و ليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، و تعميقه و وعيه، إلا استمرارا لتلك الظاهرة تاريخيا.”[14]

و توصلا إلى النتيجة يقول غسان عن هذه الأبعاد الثلاثة: “إن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية، والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.”[15] ثم يقول غسان عن هذه المقاومة المباشرة “وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخا ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلا من انتكاساتها و عذابها وقودا لتجديد توق ملتهب.”[16] و قد ساق غسان في هذا السياق قصائد لحبيب قهوجي و راشد حسين و محمود درويش الذين سجلوا مجزرة كفرقاسم التي جزرت فيها القوات الصهيونية خمسين عرب عشية العدوان الثلاثي، والتي شكلت نقطة انعطاف أساسية في الموقف المقاوم لشعراء المحتلة العرب، إذ من النادر أن لا يأتي ذكر كفر قاسم كشهادة دائمة على المقاومة. و كذلك ذكر قصيدة لسميح القاسم بعنوان “كرمئيل” و هو إسم المدينة التي ابتناها الإسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى “دير الأسد”، و “البعثة”، و “نحف”، ضمن خطتهم لتهويد الجليل. و قد أطلق القاسم على هذه المدينة إسم “مدينة الحقد و الجوع والجماجم”. للشعراء المذكورين أعلاه آنفا قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، و عن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، و عن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، و إلى آخر ما هنالك من قضايا يومية.[17]

الفصل الثالث: نماذج من الشعر والأقصوصة، والمسرحية

إن هذا الفصل بمثابة وثيقة، فقد قدم غسان قصائد لثماني شعراء، مع تعريفاتهم المؤجزة، وهم حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، فوزي الأسمر، نزيه خير، راشد حسين، محمود دسوق. و بعد ذكر قصائد هؤلاء الشعراء، إنه أورد غسان أقصوصة بعنوان “و أخيرا: نور اللوز” لـ”أبو سلام”، وبعد هذه الأقصوصة، قدم غسان نموذجا لمسرحية بعنوان “بيت الجنون”، للكاتب توفيق فياض.

و جملة القول، في هذا البحث القيم، درس غسان أولا الحروب التي تشنها إسرائيل لتهويد المجتمع العربي، و المجازر التي تقام لإبادة العرب، والمؤامرات التي تتبناها السلطات الإسرائيلية لدفع العرب إلى التخلف، و نهب أراضيهم، هدم قراهم، و سلب ممتلكاتهم، و التعذيب الذي يلقى المثقفون العرب. ثم درس الأدب المقاوم الذي تصدى لتفويت مؤامرات الصهاينة، و صرخ في وجه السلطات الظالمة رغم كل القيود، والمصائب، والمشكلات. أما الفصل الثالث فليس إلا امتدادا للفصل الثاني، تثبيتا أكثر لدور المقاومة في الصمود والرفض لكل أشكال القمع الإسرائيلي.

في الأدب الصهيوني:

هذه الدراسة التي صدرت لأول مرة عام 1967 بعنوان “في الأدب الصهيوني”، في بيروت، تأتي بين الدراستين المذكورتين أعلاه، فنشرت بعد الدراسة الأولى بسنة، و قبل الدراسة الثانية بسنة، و يبدو أن هذه الدراسة جاءت مكملة أو امتدادا للفصل الثاني من الدراسة الأولى، الذي تناول “البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني”، و كذلك يبدو أن غسان كان يدرس الأدب الصهيوني أيضا بالإضافة إلى دراسته للأدب الفلسطيني المقاوم، كما يقول محمود درويش في مقدمته للمجلد الرابع من الأعمال الكاملة المحتوية على دراسات غسان كنفاني: “في الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة و إحدى مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية، و دورها في تشكيل الوعي والكيان، الصهيونيين. و بكلمات أخرى كان يدرس فاعلية الكتابة لدى العدو، فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية.”[18]

فكان غسان كنفاني في كتابته عن الأدب الصهيوني أيضا كاشفا و رائدا مثلما كان في كتابته عن الأدب المقاوم، وقد نعته عادل الأسطة أيضا بالريادة في الدراسة عن الأدب الصهيوني كما نعته محمود درويش فيما سقت آنفا من قوله، فيقول عادل أسطة: “قد كان كنفاني أول من كتب دراسة باللغة العربية حول الأدب الصهيوني.”[19] و في الحقيقة، كان غسان قد بدأ دراسة الأدب لدى العدو قبل أن يبدأ دراسة الأدب المقاوم في الأرض المحتلة، و يدل على ذلك بحثه الذي أعده بعنوان “العرق والدين في الأدب الصهيوني” عندما كان طالبا بجامعة دمشق في وقت مبكر من حياته.

قد ساعد غسان في دراسته للأدب الصهيوني إلمامه باللغة الانجليزية، فقد كان تعلم في مدرسة في يافا كانت تركز على الانجليزية. و خلال دراسته للأدب الصهيوني المكتوب أو المترجم بالإنجليزية، أدرك غسان الدور الهام لهذا الأدب الذي استخدمه الصهاينة في حملاتهم الدعوية، و نشر رؤيتهم في العالم، وإقناع دول أوربا في إقامة دولة لهم، فالأدب الصهيوني -بغض النظر عن لغة الكاتب، وبلده، ودينه، وعرقه- ليس إلا السلاح الذي خدم حركة الصهاينة لاستعمار فلسطين كما يقول كنفاني “ربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة.”[20] و ذهب غسان في هذا الكتاب إلى “أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً.“[21]

خلاصة القول:

من خلال دراساته المذكورة أعلاه، قام غسان كنفاني بتجسيد حكمتين: أولا “اعرف نفسك”، و ثانيا “إعرف عدوك”. فعن طريق دراستيه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، إنه جسد الحكمة الأولى أى “اعرف نفسك”، حينما عن طريق الدراسة الثالثة “في الأدب الصهيوني” إنه قام بتجسيد الحكمة الثانية يعني “إعرف عدوك”، كما يقول بنفسه: “وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب اعرف عدوك.”[22] و ذلك ليس للمعرفة الباردة أو التأملية فقط، بل للرصد، والاستعداد، والصراع. و يقول أنيس صائغ الذي عرف غسان طويلا و كتب مقدمة لهذا الكتاب فيما بعد “جمعت بيني و بين غسان أسباب كثيرة، أولها و أكثرها أهمية شعار إعرف عدوك…كان غسان مهجوسا بمعرفة كل ما له علاقة بالعدو الصهيوني، بل إنه قرأ تاريخ فلسطين الحديث من وجهة نظر الدمار الذي ألحقه الصهيونيون به[23]” و كان غسان في كل ذلك رائدا و مكتشفا منفردا.

مراجع الفصل:

[1] Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.02.

[2] كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 10.

[3] Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.10.

[4] كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 9.

[5] نفس المصدر، صـ 11

[6] نفس المصدر، صـ 11

[7] نفس المصدر، صـ 19

[8] نفس المصدر، صـ 45-46

[9] نفس المصدر، صـ 50-51

[10] نفس المصدر، صـ 63

[11] نفس المصدر، صـ 64 و 66.

[12] نفس المصدر، صـ 67.

[13] نفس المصدر، صـ 68.

[14] نفس المصدر، صـ 72.

[15] نفس المصدر، صـ 75.

[16] نفس المصدر، صـ 76.

[17] نفس المصدر، صـ 84.

[18] عادل الأسطة، استقبال شعر المقاومة في النقد الأدبي في العالم العربي، مقال قرئ في مؤتمر “ثقافة المقاومة”، في جامعة فلاديلفيا، الأردن، في نيسان عام 2005، صـ 2.

[19] عادل الأسطة، الأديب الفلسطيني والأديب الصهيوني، منشورات شمس في فلسطين، 1993، صـ 10.

[20] كنفاني، غسان، في الأدب الصهيوني، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1967.

[21] نفس المصدر، صـ

[22] نفس المصدر، صـ 28.

[23] فيصل دراج، مجموعة برقوق نيسان والقميس المسروق و قصص أخرى، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، صـ 69

رابط النشر: http://www.aqlamalhind.com/?p=857





Saturday, January 27, 2018

غسان كنفاني: دراسة في حياته و أعماله



غسان كنفاني: دراسة في حياته و أعماله


غسان كنفاني أديب فلسطيني تلتحم حياته بالمقاومة الفلسطينية التحاما، وفي الحقيقة حياته بأكملها مقاومة لا يمكن فصلها منها في أي صورة، كما يقول الدكتور فؤاد: “غسان من هؤلاء الحالمين الذين يعملون على تقصير المسافة بين الفعل والكلمة، و يتطلعون إلى جنس جديد من البشر”[1] فإنه مقاوم من حيث الفعل، و من حيث الكلمة، و قد وصفه كامل سلمان الجبوري بالفدائي كما يقول “غسان كنفاني أديب فلسطيني من كبار الفدائيين.[2]” فهو أديب ولد في عنفوان ثورة عام 1936، و استشهد في ريعان شبابه عام 1972، وكابد شقاوة الحياة و مرارتها من التهجير والغربة، و عاش حياة لاجئ تائها في البلدان العربية المجاورة، مختفيا في بعض الأحيان من السلطة. وهو كاتب ناضل بريشة قلمه و أفكاره طول حياته القصيرة التي لا تتجاوز أكثر من ست و ثلاثين سنة، ولكنها غزيرة بالانتاجات التي مفعمة بالحيوية و روح النضال والمقاومة، وهو كما -يقول محمود درويش-“أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم…..ونقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم[3]” و ليس هذا فحسب، بل حياته مليئة بالنشاط السياسي والاجتماعي أيضا.

أسرة غسان كنفاني:

كانت أسرة غسان أسرة مسلمة سنية من أسر الطبقة المتوسطة بمدينة عكا مدينة بساطين البرتقال و الزيتون القائمة على ضفة البحر المتوسط. أبوه محمد فائز عبد الرزاق كنفاني كان محاميا قد حصل على شهادة الحقوق خلاف رضى أبويه، و يشتغل محاميا بمدينة “يافا”، و كان يعمل في النشاطات القومية الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني، والاستيطان الصهيوني، و لذلك أودع السجن مرارا قبل النكبة. أما أم غسان كنفاني، فرغم كونها غير متعلمة –كما وصفها غسان-كانت عاقلة و ذات حكمة عظيمة.[4]

ولادته و دراسته:

ولد غسان بـ”عكا” في 9 أبريل/نيسان عام 1936، في وقت كانت فلسطين تحترق في نار الثورة الكبرى، و كانت سلطة الاحتلال قد شمرت عن ساقها لاجتثاث إرادة الشعب للتحرير من أصولها. و بما أن أباه فائز محمد كنفاني كان يشتغل محاميا في مدينة “يافا” و يسكن في حي المنشئة هناك، فعاد به إلى يافا عندما انتهت فترة الإجازة. و في يافا قطع غسان المرحلة الابتدائية من مراحل حياته و دراسته فعندما بلغ الثانية من عمره ألحقه أبوه بروضة الأستاذ وديع سري حيث تلقى دروسه الأولى في اللغة العربة والإنجليزية و الفرنسية، و بعد ذلك التحق بمدرسة الفرير التي كانت تديرها منظمة فرنسية تنصيرية بمدينة يافا.[5]

التهجير والغربة:

ولم يمض على دخول غسان في مدرسة الفرير بيافا بضع سنوات حتى اضطر أبوه أن يهاجر مع أسرته إلى مسقط رأسه “عكا” عندما تعرضت مدينة يافا للهجوم اليهودي الأول على المسلمين لقربها من تل أبيب إثر قرار تقسيم فلسطين عام 1947.[6] و في عكا لم يوفق له و لأسرته إلا أن يقضوا عدة شهور فقط، فعكا أيضا أصبحت فريسة للهجوم الوحشي اليهودي والتطهير العرقي في أواخر نيسان عام 1948. و مدينة “عكا” التي قد كان عدد سكانها 1800 نسمة عند صدور قرار تقسيم أصبحت تحتوي على أكثر من 40000 نسمة بعد ان كانت أصبحت مأوى للمهاجرين من مدينة يافا، و حيفا، و القرى المجاورة التي قد سقطت قبلها. في 25 أبريل 1948 رجم اليهود مدينة “عكا” بالصواريخ و مدافع مورتورز مما أدى إلى استشهاد عدد كبير من السكان.[7] و قد عرض عدنان كنفاني أخو غسان صورة لهذا الوقت المأزق، فهو يقول “كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون)، وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم، و وقف رجال الأسرة في بيت جدنا الواقع في أطراف البلد، و كل يحمل ما تيسر له من سلاح و ذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى ذلك الأمر. ومما يذكر هنا أن بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون معنا و كنا نقدم لهم القهوة تباعا علما بأن فرقتهم بقيادة (أديب الشيشكلي) كانت ترابط في أطراف بلدتنا. و كانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين، و يافا، و حيفا، التي لجأ أهلها إلى عكا و كانت الصور ما تزال ماثلة في الأذهان. و في هذا الجو كان غسان يجلس هادئا كعادته ليستمع و يراقب ما يجري.”[8] و جملة عدنان الأخيرة تدل على أن غسان كان دقيق الملاحظة، ولهذه الملاحظة الدقيقة أثر كبير في التقائه الأبطال الأحياء من المجتمع لقصصه و رواياته.

و إثر الهجوم الأول، والخوف الذي أصاب اللاجئين مما شاهادوا من القتل والدمار الوحشيين و المجازر المروعة في مدنهم و قراهم، و بسبب قلة الغذاء والماء فقد كان اليهود قد لوثوا مياه “الكابري” -القناة التي كانت تزود عكا- بجراثيم التيفوئيد ليضيقوا الخناق على سكان عكا واللاجئين إليها، بدأت الأسر تنزح من عكا إلى البلدان العربية المجاورة في الزوارق عن طريق البحر، وفي الشاحنات في هرج و مرج، قبل أن يبدأ الحصار اليهودي لعكا في 28 شباط 1948. و عند سقوط عكا قتل اليهود أكثر من مئة مدني كان بينهم عدد غير قليل من الشيوخ والأطفال.[9] و كانت أسرة غسان من الأُسَر التي تمكنت من الهجرة في شاحنة إلى لبنان، و نزلت بـ”صيدا”. و هناك استأجر أبوه مكانا لقيام أسرته في بلدة “الغازية” فمكثوا فيه، ولكن المقام لم يطِب لأبيه لأنه كان قد بذل كل ما كسب في بناء بيته في عكا و في بناء منزل له في حي العجمي بيافا، و لم يبق لديه إلا بعض النقود التي لم تكن كافية لسد رمق الأسرة، وبالإضافة إلى ذلك لم يجد هناك مجالا للعمل الذي يساعد على قضاء الحياة في هذه المدينة الصغيرة، فلم يمض أربعون يوما على مكوثه هناك، حتى شد الرحال مع أسرته و طاف حلب ثم الزبداني، و في النهاية استأثر القيام في “دمشق” حيث وجد المجال الأرحب للعمل كمحامي.[10]

استكمال الدراسة و بداية الحياة السياسية:

فتح أبو غسان مكتبا لممارسة المحاماة، و حقق نجاحا في مهنته، فتحسن حال الأسرة الغريبة التي عاشت حياة قاسية حتى الآن، وسنحت الفرصة لأبنائه أن يكملوا دراساتهم، فانتهز غسان الفرصة و بدأ دراسته الثانوية التي خلالها برز تفوقه في الرسم والأدب العربي، و بدأت مواهبه تتفتح فقد جعل يقرض الشعر، و يكتب المقطوعات الوجدانية والمسرحية و هو لم ينته من الثانوية بعد، و كذلك جعل يقوم بتصحيح البروفات لبعض الصحف لكسب بعض المال الذي يكون عونا لأبيه. و عندما أكمل غسان دراسته الثانية في عام 1952 حصل على شهادة التدريس أيضا، بالإضافة إلى شهادة الثانوية. فبدأ حياته المهنية و جعل يعمل مدرسا للتربية الفنية في مدرسة “الإليانس” إحدى مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (اونرو) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees (UNRWA) في دمشق. وبالإضافة إلى اشتغاله بالتدريس، إنه التحق بقسم اللغة العربية في “جامعة دمشق” لممارسة دراسته العليا في الأدب العربي، وأعد أطروحته بعنوان “العرق والدين في الأدب الصهيوني”، و هناك لقي جورج حبش في عام 1953 الذي حرضه على الانضمام إلى “حركة القوميين العرب” (Arab Nationalists Movement).[11] و جورج حبش الذي تخرج في الجامعة الأمريكية بـ”بيروت” كان مسيحيا متعصبا و كان له يد في الصدام العنيف بين الجماعتين من المسلمين، فقد كان لعب دورا بارزا في تحريض اللاجئيين الفلسطينيين ضد الحكومة الأردنية الذي أدى إلى صدام عنيف بين الجانبين في عام 1970. إنه كان قائد “حركة القوميين العرب” التي أسسها المسيحيون العرب من السوريا و لبنان، والتي اتخذت مقرا لها في الجامعة الأمريكية بـ”بيروت” و كان من أهداف هذه الحركة توحيد العرب على أسس اللادينة، لأن قائدها كان يرى الدين سببا هاما في هزيمة العرب. عملت هذه الحركة أولأ لأغراض الولايات المتحدة، ثم أصبحت تنادي بالماركسية والشيوعية.[12]

انخرط غسان في “حركة القوميين العرب” على تحريض جورج حبش –كما سقنا آنفا- وأصبح عضوا نشيطا لها، و نشاطاته هذه أدت إلى إحراج مع والده الذي كان يتمنى أن يكمل غسان دراساته، وفي النهاية إلى فصله عن الجامعة في عام 1955م، وهو لم يكن يمضي في رحاب الجامعة إلا سنتين.[13]

في الكويت:

بعد أن فصل عن الجامعة بسبب نشاطاته السياسية، قصد غسان “الكويت” في نفس السنة ليعمل هناك مدرسا للرسم و الرياضة و لحق شقيقته فائزة و أخاه غازي الذين قد سبقاه إلى الكويت بسنوات للتدريس في المعارف الكويتية.[14] و هناك تبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياته، لها دور مهم في تكوين شخصيته من حيث تطور الأفكار عنده، و من حيث الدراسة، و من حيث نقطة الانطلاق للانتاج الأدبي.

أما من حيث تطور الأفكار، فعندما يصل “الكويت” يجد نفسه تتخذ القيام في غرفة يسكنها ست زملاء كلهم يحملون اتجاهات شيوعية، و هم أعضاء في إحدى الوحدات الشيوعية هناك، فيتأثر بهم، و كذلك يتأثر كثيرا بزوج أخته الذي كان ينتمي إلى منظمة شيوعية، و يعد من أهم أعضائها، و تحت هذا الأثر إنه مال إلى الشيوعية و بدأ دراسة الماركسية بشره.[15] و قد تكلم غسان -في حوار أجراه الكاتب السويسري- عن علاقته بالاشتراكية و اعتناقه للمبادئ الشيوعية، و تطور حركة القوميين العرب في حركة ماركسية: “يمكنني القول بأن حركة القوميين العرب كانت تشمل بعض العناصر الشابة، و كنت من ضمنها، التي كانت تسخر من حساسية الكبار في السن تجاه الشيوعية، و بالطبع لم نكن يومها شيوعيين، ولم نكن نحبذ الشيوعية. غير أن حساسيتنا ضد الشيوعية كانت أقل نسبة من حساسية المتقدمين في السن، و بالتالي، لعب الجيل الجديد دورا بارزا في تطوير حركة القوميين العرب إلى حركة ماركسية-لينية. و كان العامل الأساسي في ذلك كون غالبية أعضاء حركة القوميين العرب من الطبقة الفقيرة، أما الأعضاء المنتمون إلى البورجوازية الصغيرة، أو البورجوازية الكبيرة، فقد كان عددهم محدودا… و قد اطلعت على الماركسية في مرحلة مبكرة من خلال قراءاتي و إعجابي بالكتاب السوفيات.”[16]

أما من حيث الدراسة، فكان قيامه في الكويت فرصة سانحة للدراسة الواسعة والعميقة، فأقبل على دراسة الأدب العربي، والماركسية إقبالا، و نجده يدرس بنهم لا يصدق، و يذكر أخوه عدنان كنفاني قوله عن إقباله على الدراسة فيقول “إنه لا يذكر يوما نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ست مئة صفحة، و كان يقرأ و يستوعب بطريقة مدهشة.”[17] أما نقطة الانطلاق للانتاج الأدبي، فنجد غسان في عام 1956 قد انخرط في إدارة صحيفة “الرأي” الكويتية الناطقة بلسان “حركة القوميين العرب،”[18] وبدأ يكتب تعليقا سياسيا بتوقيع “أبو العز” الذي استلفت به اتجاه الناس.[19] و في الكويت برزت مواهبه الفياضة في كتابة القصة القصيرة فكتب هناك عددا من باكورات قصصه القصيرة التي نشرها في هذه الصحيفة من أهمها “ورقة من الرملة”، و”ورقة من غزة”، و “ورقة من الطيرة”، و “إلى أن نعود”، و “درب إلى خائن”، و”أرض البرتقال الحزين”، و “القميص المسروق.”[20] و قد نال على قصة “القميص المسروق” في عام 1957 الجائزة الأولى في مسابقة أدبية، و التي شكلت فيما بعد عنوانا لإحدى مجموعات قصصه القصيرة.[21]

في بيروت:

على دعوة جورج حبش للعمل كمحرر أدبي في مجلة “الحرية” التي اشترتها “حركة القوميين العرب” بـ”بيروت” لتكون مجلة رسمية لها، غسان يغادر الكويت عام 1960 إلى لبنان، و يختار القيام في بيروت.[22] و هناك وجد الفرصة للوقوف على التيارات الأدبية والسياسية عن كَثَب حتى في وقت قليل أصبح بسبب نشاطاته التحررية و حماسته لقضية فلسطين و ثقافته الواسعة، مرجعا للمهتمين بالقضية الفلسطينية. وفي السنة التالية دخل في النصف الأفضل من حياته فتزوج بامرأة دنماركية آني هوفر (Anni Hoover) التي كانت حضرت بيروت للاطلاع على القضية الفلسطينية على كثب، و تعرف عليها غسان عن طريق بعض أصدقائه الذين ذهبوا بها إليه كمرجع للقضية الفلسطينية.

كانت آني هوفر امرة دنماركية و تعرفت إلى القضية الفلسطينية والظلم الواقع على الفلسطينيين عن طريق بعض الطلاب الفلسطينيين في دنمارك، ، فتحمست لهذه القضية، و شدت رحالها إلى البلاد العربية للاطلاع على القضية، و عندما زارت بيروت مرورا بدمشق التقت بغسان لأنه كان يعتبر مرجعا للقضية الفلسطينية، فقام غسان بشرح الموضوع لها، و زار معها المخيمات، و أراها الحياة القاسية هناك، فتأثرت بهذه القضية، و كذلك تأثرت بشخصية غسان، و تحمسه للقضية، و عندما عرض عليه غسان الزواج بعد عشرة أيام بلقائه إياها، أجابت بالقبول، فتزوجا. كانت آني معه في عسر و يسر، و ساعدته في تنظيم حياته غير المنتظمة، و في تقوية جسده النحيل الذي كان قد أرهقه مرض السكري، و التهاب المفاصل. إنها ساعدت غسان في توفير المواد لدراسته “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” عن طريق استخدام وسيلة وطنه. كان غسان و آني رزقا، في العام التالي لزواجهما، بابن سماه “فائز” ثم رُزقا بابنة سمياها “ليلى”.

و مر غسان في بيروت بأقسى ظروف عندما اضطر إلى الاختفاء عام 1962 لأنه كان لا يملك الوثائق الرسمية، و أثناء اختفائه، عندما اضطر أن يتوقف عن الكتابة في الصحف، سنحت له الفرصة أن يكتب روايته الاولى الشهيرة “رجال في الشمس”. و في السنة التالية 1963 ظهر كرئيس التحرير لصحيفة “المحرر” اليومية التي كانت تمثل نظرية القوات الناصرية المتقدمة، و محررا لملحقها الأسبوعي “فلسطين” وأصدر أفضل و أشهر و أول روايته “رجال في الشمس” التي تعتبر معلما مهما في مسير الرواية العربية عموما و في الرواية الفلسطينية على وجه الخصوص، والتي ألقت الضوء على حالة الاستسلام والخنوع التي كان أهالي فلسطين يمرون بها سواء في الأرض المحتلة أو في المنفى.[23]

حياة غسان في بيروت كانت مشحونة بالنشاطات السياسية والأدبية معا، فنجده يزور االهند والصين عام 1965، و لكن من الأسف الشديد لا نجد أي تفصيل لزيارته للهند مثل ما لا نجد أي تفصيل لزيارته للعراق خلال إقامته بالكويت، و لكنه قد كتب رحلة حول زيارته للصين بعنوان “ثم أشرقت آسيا” التي صدرت في حلقات عام 1965. والجدير بالذكر هنا أن في هذه السنة، أنعم الله عليه بولادة ابنة سماها “ليلى”.[24]

في العام التالي، أعني في عام 1966 يصدر غسان روايته الثانية “ما تبقى لكم” التي تجلب له “جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان”. و في نفس السنة إنه أخرج دراسته الشهيرة “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966” التي قامت بتعريف أدب المقاومة، و أخرجت الأدب الفلسطيني المتواجد في الأرض المحتلة من الانزواء إلى النور.

في عام 1967 التحق غسان بهيئة التحرير لصحيفة “الأنوار” الناصرية و عمل رئيسا لتحرير مجلتها الأسبوعية، و في نفس السنة شارك في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين POPULAR FRONT FOR THE LIBERATION OF PALESTINE (PFLP) ، برئاسة أحمد جبريل عقب تشتت حركة القوميين العرب، و أصبح عضو المكتب السياسي لها والناطق الإعلامي باسمها. وفي عام 1969 استقال عن صحيفة “الأنوار”، و قام بتأسيس مجلة ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باسم “الهدف” وترأس تحريرها إلى أن اغتيل شهيدا.[25]

و “الهدف” في الحقيقة كانت صحيفة يومية سياسية تصدر في بيروت، لكن عندما اشترت الجبهة الشعبية امتيازها باسم غسان كنفاني، أصبحت الصحيفة مجلة مركزية للجبهة ولسان حالها، و بدأت تصدر برئاسة تحرير غسان كل أسبوع بعشرين صفحة على قطع كبير. و قد عبر غسان عن الغاية من إصدارها في عددها الأول الذي صدر 26 يوليو 1969، بـ”رفضها لكل الصيغ العاجزة المتخذة حينا طابع المساواة، و حينا طابع المهاودة، و حينا ثالثا طابع الوسيطة، و هي تعتنق هذا الرفض الثوري أساسا للمعركة المصيرية…..إنما تأتي ردا على الصناعة الإعلامية العربية التي أسقطتها القيم التجارية و قيم المجتمع المنهار، و في دوامة العجز والفشل……و أنها لم تسمح لمواقف الارتجال والانفعال المزايدة أن تحل مكان موقف الموضوعية والعلمية.”[26]

الاستشهاد:

في غرة شهر يوليو عام 1972، حضرت لميس ابنة اخت غسان التي كانت قد أكملت الثانوية العامة بأعلى المراتب في الكويت للالتحاق بالجامعة الأمريكية بـ”بيروت”. و في الثامن من يوليو، خرج غسان مع لميس ليصطحبها إلى الجامعة و ينتهي من إجراءات تسجيلها هناك، و لكن ما أن ركب السيارة و حرك مقودها حتى انفجرت عبوة ناصفة وضعها فيها جهاز مخابرات إسرائيل (موساد)، و انتشرت أشلاء السيارة و أشلاء غسان و ابنة اخته في الهواء. و تقول زوجته السيدة آني عن هذا الحادث “(… بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس ـ ابنة أخته ـ سمعنا انفجارا رهيبا تحطمت كل نوافذ البيت .. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته .. وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار .. ولم نجد غسان، ناديت عليه !! ثم اكتشفت ساقه اليسرى.. وقفت بلا حراك.”[27]

شهدت مدينة بيروت حشدا كبيرا، و جما غفيرا في جنازة غسان، و لعل جنازته كانت أكبر مظاهرة سياسية بعد وفاة ناصر.[28] و دفنت بقايا غسان في مقبرة الشهداء في بيروت، واعترف مغتالوه عن جريمة قتله فيما بعد. ففي 22 يناير عام 1973، نشرت صحيفة إسرائيلية (Jerusalem Post) بأن عملاء إسرائيليين مسؤولون عن استشهاد غسان،[29] و اعترف بذلك قادة الكيان الصهيوني في شكل رسمي في أكتوبر عام 2005 بان عملاء جهاز “الموساد” قتلوا غسان عن طريق وضع عبوة ناصفة في سيارته.[30] و لم تكن شهادة غسان إلا حلقة من حلقات مؤامرة الصهاينة لاغتيال العبقريات و القادة الفلسطينيين الذين يلعبون دورا في النضال الشعبي ضد التعدي والعدوان الصهيوني كما يقول أوس داؤد يعقوب “كان اغتيال …غسان كنفاني… متابعة للمسلسل الإرهابي الصهيوني الرهيب، الذي ألحقه قادة العدو الصهيوني بأخس و أجبن محاولات الاغتيال والتصفيات الجسدية والتشويه والإرهاب عبر الطرود الملغومة، و تفجير السيارات، و زرع القنابل الموقوتة في السيارات والهواتف و الغرف، و التي كان من ضحاياها في بيروت اغتيال عدد من قادة العمل الوطني الفلسطيني، أمثال: اغتيال الكمالين ناصر و عدوان، و محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، و محاولة اغتيال الدكتور أنيس صايغ، والصحفي بسام أبو شريف، والتي ذهب ضحيتها في بلدان الشتات والمنافي نخبة من خيرة رجالات فلسطين والأمة العربية، من كتاب و مبدعين، أمثال: وائل زعيتر، و محمود الهمشري، و د. باسل الكبيسي، و ماجد أبو شرار، و ناجي علي، و غيرهم كثير.”[31]

الرثاء:

رثى كثير من الكتاب والأدباء العرب في مقالاتهم و شعرهم على غسان كنفاني، و اعترفوا بفضله، و بدوره في المقاومة الفلسطينية، و فيما يلي نورد بعض مقتبسات من عدة مقالات كتبت في رثاء غسان كنفاني لتسليط الضوء على مدى تأثر الأدباء والكتاب والمفكرين به:

محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الرائد الذي كتب مقالة طويلة في نثر شبه شعري بعنوان “محاولة رثاء بركان” في رثاء غسان كنفاني يقول:[32]

” اكتملت رؤياك، و لن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، و على سطوح منازل الجيران، و في ملفات التحقيق. و لم يكتمل حضورنا نحن الأحياء-طبقا لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازا. و أنت الميت-طبقا لكل الوثائق. أنت الميت مجازا.

نحزن من أجلك؟ لا.

نبكي من أجلك؟ لا.

أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة، و صرنا نتشوف الفعل، و لا نفعل. أعطيتنا القدرة على الحزن، وعلى الحقد، على الانتساب. و كنا نتعاطى الحزن بالأقراص، و نتعاطى الحقد بالحقن، و نتعاطى الانتساب بالوراثة.

مرة واحدة أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا، و على الرغبة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري. الآن ندري، حين خرجت منا.

و من أنت يا غسان كنفاني؟

حملناك في كيس، و وضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة، تماما كما حملنا الوطن في كيس، و وضعنا في جنازة لم تنته حتى الآن، و بمصاحبة الأناشيد الرديئة.

كم يشبهك الوطن!

و كم تشبه الوطن!

والموت دائما رفيق الجمال، جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس منك و انتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، و اكتملت به. و نحن حملناكم. و أنت والوطن والموت. حملناكم في كيس و وضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. و لم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. و كنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي……..

و يا غسان كنفاني. للمناسبة، قل لي من أنت؟

غامض، و عاجز عن الإجابة، لأنك فلسطيني حقيقي. كلما اشتد وضوحك اشتد غموضك. تنسى نفسك في البحث عن الوطن. و ينساك الوطن في بحثك عن نفسك، ثم تلتقيان يومين في اليوم. في اليوم الواحد تلتقيان أمس و تلتقيان غدا. و ما الفرق بينكما؟ هو الفارق بين ظل الشجرة في الدم، و بين ظل الشجرة الماء.

فلسطيني حتى أطراف أصابعك. فلسطيني حتى الحماقة.

و هذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.

تسلم على السائح، فتصيبه عدوى فلسطين….

هذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.

ليست أشلاؤك قطعا من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، و حيفا، و القدس، و طبريا، و يافا. و طولى للجسد الذي يتناثر مدنا….

نسفوك كما ينسفون جبهة، و قاعدة، و جبلا، و عاصمة.

و حاربوك، كما يحاربون جيشا..لأنك رمز، و حضارة جرح.

و لماذا أنت؟ لماذا أنت؟

لأن الوطن فيك صيرورة مستمر و تحول دائم. من سواد الخيمة حتى سواد النابالم. و من التشرد حتى المقاومة….

لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لأشغلت سكانهما بقضية فلسطين.

ها هم يتبارون في رثائك. كأنك شيئ ذاهب…

ها هم يتبارون في رثائك، كأنهم يرثون فردا.

آه.. من يرثي بركانا!”

هذه المقتبسات تلقي الضوء على مدى تأثر محمود درويش بغسان كنفاني، و كذلك تدل على إدراكه المكانة التي احتله غسان كنفاني في الكفاح الشعبي أديبا، و صحفيا، و سياسيا، و فكريا.

و يقول أنيس صائغ في مقال كتبه بعنوان “غسان كنفاني: لقاء لم يتم”:

“عاش غسان ثورة دائمة في العلاقات الخاصة، كما في الشؤون العامة. فنانا كان، أو أديبا، أو كاتبا، أو مفكرا، صديقا كان، أو رفيقا، أو زميلا، أو قريبا، أو زوجا، أو أبا، أو أخا، كان ثورة تلتهب مثلما تحرق أعصابه. لذلك كان النضال الفعلي في الثورة الفلسطينية/العربية/الإنسانية، بالكتابة والتوجيه والدعوة والانتماء العقائدي، و تحمل المسؤولية، بؤرة يحقق غسان فيها ذاته، و يقترب من مثله العليا السامية. و لعله كان أيضا يريح فيها أعصابه.”[33]

آثار غسان كنفاني:

بما أن شخصية غسان كانت ذات موهبة فياضة، و ذات أوجه متعددة، تنوعت عطاءاته و إنتاجاته في الأدب، والنقد، و الفن، والثقافة، والسياسة، فثبت كاتبا مكثرا خلال عمر غير مديد، و أثرى المكتبة العربية إثراء يقل نظيره. إنه ملأ صفحات الصحف بقلمه السيال، و أخرج روايات رائعة ممتازة، و كتب القصص المثيرة، و أعد بحوثا و دراسات قيمة، و أصدر مسرحيات جديرة بالتمثيل على خشبة المسرح ألف مرات، فكما يقول عبد الله ابو راشد “كان (غسان) حالة انسانية متوازنة و بداعية منفردة يقف على مسافة واحدة من جميع صنوف الأدب والفنون والصحافة و السياسة التي خاض غمارها منذ بواكير حياته.”[34]و كل ذلك لغرض نبيل و هدف سام، و هو مأسأة فلسطين و حقوق مواطنيه الفلسطينين الذين يشكلون محور كتاباته، كما قال بنفسه -و هو يجيب ابنة أخته لميس التي طلبت منه أن يترك العمل النضالي و يتفرغ لكتابة القصص لأن قصصه جميلة – أنا أكتب جيدا لأنني أومن بقضية، و بالمبادئ. في اليوم الذي أترك هذه المبادئ، ستكون قصصي فارغة. و إذا تركت المبادئ خلف ظهري، لما تحترميني بنفسك.[35] و جملة القول، إنه خلف آثارا رائعة و غزيرة رغم مدة حياته القصيرة، و ترك لنا تراثا عظيما قد أصبح جزءا من الأدب العالمي، و سوف يبقي مدى حياة الأدب العربي.

الدراسات والبحوث: صدر لغسان كنفاني خمس دراسات و بحوث، “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” عام 1966 في بيروت، و”الأدب الفلسطينى المقاوم تحت الاحتلال 48 – 68″ عام 1968 في بيروت، و “فى الأدب الصهيونى” عام 1967 في بيروت، و “المقاومة و معضلاتها”، و”ثورة 36 – 39 في فلسطين، خلفيات و تفاصيل”.

المسرحية: أخرج غسان كنفاني ثلاث مسرحيات “الباب” عام 1964، و”جسر إلى الأبد” عام 1965، و”القبعة والنبي” عام 1967.

رواياته: أخرج غسان كنفاني في طول حياته أربع روايات مختصرة كاملة “رجال في الشمس” عام 1963 ، و”ما تبقى لكم” عام 1966، و”أم سعد”عام 1969، و “عائد إلى حيفا” عام 1969. و كتب، ما عدا هذه الروايات الأربع، ثلاث روايات أعجلته المنية قبل أن يكملها 1-العاشق، 2-الأعمى و الأطرش، و 3- برقوق نيسان. و هناك رواية تم إصدارها عام 1980 بعد استشهاده بعنوان “الشئ الأخر أو من قتل ليلى حائك”.

قصصه القصيرة: صدرت لغسان كنفاني خمس مجموعات قصصية و هي: “موت سرير رقم 12” عام 1961م، و “أرض البرتقال الحزين” عام 1962، و “عالم ليس لنا” عام 1965، و”عن الرجال والبنادق” عام 1968، و”القميص المسروق وقصص أخرى” نشرت بعد وفاته.

*****

مراجع البحث:

[1] فيصل دراج، مجموعة برقوق نيسان والقميس المسروق و قصص أخرى، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، ، صـ 64-64

[2] الجبوري، كامل سلمان، معجم الأدباء: من العصر الجاهلي حتى سنة 2002، المجلد الرابع، ط1، دار الكتاب العلمية، بيروت، 2003، صـ 392.

[3] محمود درويش، غزال يبشر بزلزال،مجلة “الأسوار”، العدد الثامن والعشرون، عكا القديمة، 2008، صـ 32

[4] Patrick M. O’Neil, Great World Writers: Twentieth Century, Volume 5, Marshall Cavendish, New York, 2004, Page no. 648.

[5] الزركلي، خير الدين، الأعلام، الجزء الخامس، ط17، دار العلم للملايين، 2007، صـ 119.

[6] أوس داؤود يعقوب، الشهيد غسان كنفاني: ظل الغياب، موقع ديوان العرب، تاريخ التصفح: 26-09-2011، الرابط: http://www.diwanalarab.com/spip.php?article29395

[7] جميل عرفات، كيف سقطت عكا، مجلة “الأسوار”، العدد الثامن والعشرون، عكا القديمة، 2008، صـ 10.

[8] أفنان قاسم، غسان كنفاني، صـ 43، نقلا عن صهيب عالم، أثر المقاومة الفلسطينية في القصة العربية الحديثة، رسالة الدكتوراه، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، سنة 2006، صـ 332-333.

[9] جميل عرفات، كيف سقطت عكا، مجلة الأسوار، العدد الثامن والعشرون، عكا القديمة، 2008، صـ 11-13.

[10] أفنان قاسم، غسان كنفاني، صـ 43، نقلا عن صهيب عالم، أثر المقاومة الفلسطينية في القصة العربية الحديثة، رسالة الدكتوراه، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، سنة 2006، صـ

[11] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 94.

[12] ثروت صولت، ملت إسلامية كي مختصر تاريخ، ج3، مركزي مكتبة اسلامي، نيو دلهي، 2010، صـ 387-388.

[13] الزركلي، خير الدين، الأعلام، الجزء الخامس، ط17، دار العلم للملايين، 2007، صـ 119.

[14] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 94.

[15] نفس المصدر، صـ 94.

[16] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 20.

[17] أفنان قاسم، غسان كنفاني، صـ 43، نقلا عن صهيب عالم، أثر المقاومة الفلسطينية في القصة العربية الحديثة، رسالة الدكتوراه، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، سنة 2006، صـ

[18] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 95.

[19] أفنان قاسم، غسان كنفاني، صـ 43، نقلا عن صهيب عالم، أثر المقاومة الفلسطينية في القصة العربية الحديثة، رسالة الدكتوراه، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، سنة 2006، صـ334.

[20] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 95.

[21] أفنان قاسم، غسان كنفاني، صـ 43، نقلا عن صهيب عالم، أثر المقاومة الفلسطينية في القصة العربية الحديثة، رسالة الدكتوراه، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، سنة 2006، صـ334.

[22] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 95.

[23] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 95.

[24] نفس المصدر، صـ 97.

[25] نفس المصدر، صـ 98.

[26] الأسدي، عبده، دليل صحافة المقاومة الفلسطينية (1965-1995)، دار النمير للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 1998، صـ 170.

[27] أوس داؤود يعقوب، الشهيد غسان كنفاني: ظل الغياب، موقع ديوان العرب، تاريخ التصفح: 26-09-2011، الرابط: http://www.diwanalarab.com/spip.php?article29395

[28] Ghassan Kanafani, The 1936-39 Revolt in Palestine, Committee for a Democratic Palestine, New York, 1972, page no. 02.

[29] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 100.

[30] أوس داؤود يعقوب، الشهيد غسان كنفاني: ظل الغياب، موقع ديوان العرب، تاريخ التصفح: 26-09-2011، الرابط: http://www.diwanalarab.com/spip.php?article29395

[31] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 7-8.

[32] محمود درويش، وداعا أيتها الحرب و داعا أيها السلم، مركز الأبحاث الفلسطيني، بيروت، 1974م، نقلا عن أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ45-53.

[33] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ44.

[34] عبد الله أبو راشد، المسرح في عالم غسان كنفاني، جريدة الأسبوع الأدبي، اتحاد كتاب العرب بدمشق، العدد1308، السنة السادسة والعشرون، 2012

[35] Ghassan Kanafani, The 1936-39 Revolt in Palestine, Committee for a Democratic Palestine, New York, 1972, page no. 02.

رابط النشر: http://www.aqlamalhind.com/?p=493





مولانا مقبول احمد سالک صاحب سے چند ملاقاتیں اور باتیں

  مولانا مقبول احمد سالک صاحب سے چند ملاقاتیں اور باتیں تقریباً دو ہفتے قبل 12 ستمبر کو مولانا کی علالت کی خبر شوشل میڈیا کے ذریعے موصول ہوئ...