غسان كنفاني: الصحفي المناضل
الكتابات الصحفية تُعد من أبرز عطاءات كنفاني، و أضخمها حجما، و تراثه الصحفي ليس أبدا أقل قيمة من إنجازاته في القصة والرواية، و دوره في الصحافة يعد من أكبر العوامل التي أدت إلى اغتياله، و هذه هي الصحافة التي قادته إلى السجن، ولكن -من الغريب- قد لقي هذا الجانب المهم من شخصيته بالإهمال الكبير لدى الدارسين لإنتاجاته، فلم يحظى غسان بالاهتمام الذي كان يستحقه في هذا المجال.
فهو كان صحفيا قبل كل شئ، و له طابع خاص في كتابة المقال، و تحليل القضاى، و تناول الأخبار، و يتبوأ مكانة مرموقة في مجال الصحافة، و مهارته فيها مسلمة كما يقول الشاعر والصحفي اللبناني عبده وازن: “غسان كنفاني في النهار صحفي من الطراز الأول، و في الليل يتحول إلى القاص المأساوي.”[1] و يقول حنا مقبل: “يكفي أن يشار إلى أنه وصل إلى مرتبة من الإتقان من حيث كتابة المانشيت، إلى كتابة الخبر، إلى صياغة المقال السياسي إلى درجة لم يصل له أي صحافي فلسطيني، و كثير من الصحفيين العرب من الأسماء اللامعة.”[2] و قول حنا مقبل يدل على مدى إلمام غسان بالصحافة، و الموقع الصحفي الذي احتله غسان في العالم العربي.
مسيرة غسان الصحفية:
بدأت مواهب غسان في الكتابة تظهر أمام الناس لأول مرة عن طريق مجلة “الرأي” التي أسسها مجموعة من أعضاء حركة القوميين العرب عام 1954 نتيجة لمحاولاتهم في تأسيس مقر للحركة في دمشق،[3] و كان غسان قد أصبح عضوا نشيطا لهذه الحركة بعد أن لقي جورج حبش رئيس حركة القوميين العرب في عام 1953. إنه ركز على القضية الفلسطينية التي أصبحت شغله الشاغل طول حياته غير المديدة منذ أول يوم أخذ القلم للكتابة.
و بعد أن انتقل غسان إلى الكويت للعمل في المعارف الكويتية عام 1955، رغم اشتغاله مدرسا للرسم والرياضة ، عمل في مجلة “الفجر” الأسبوعية التي كان يصدرها النادي الثقافي القومي و بعض المنظمات لحركة القوميين العرب في الكويت.[4] ثم بدأ يعمل محررا و ناشرا لصحيفة “الرأي” الناطقة بلسان حركة القوميين العرب في الكويت، و ظل يعمل فيها حتى عام 1960م حين غادر الكويت إلى بيروت.[5]
و في إحدى هاتين المجلتين، بدأ غسان يكتب التعليقات السياسية بـتوقيع “ابو العز” بعد أن زار العراق إثر الثورة العراقية التي قضى فيها الجيش العراقي في قيادة عبد الكريم قاسم على المملكة الهاشمية العراقية في 14 يوليو عام 1958، و رأى انحراف النظام والفساد المتفشي هناك. و مقالاته بهذا التوقيع استلفتت أنظار الناس و هي تدل على تطور فن الكتابة الصحفية لدى غسان خلال بضع سنوات تطورا ملحوظا فالذي بدأ حياته الصحفية مبكرا في عام 1954، قد ارتقى المراحل بسرعة فائقة واكتسب اعتماد قادة الحركة إلى حد كبير حتى نرى جورج حبش يدعوه إلى بيروت عام 1960 لينضم إلى أسرة تحرير مجلة “الحرية”، و يتولى مسؤوليات القسم الثقافي فيها.
مجلة “الحرية” كانت مجلة عربية أسبوعية صدرت في بيروت وقد اشترت امتيازها حركة القوميين العرب عام 1959، فأصدرت العدد الأول في 4 يناير عام 1960 للتعبير عن وجهة نظر الحركة.[6] و بقي غسان يعمل في هذه المجلة لثلاث سنوات خلالها ازداد اسم هذا الشاب الطموح لمعانا و شهرة في ميدان الصحافة حتى عُرضت عليه عام 1963 رئاسة تحرير جريدة “المحرر” اليومية التي كانت تعبر عن وجهة نظر الناصريين والقوى المتقدمة في لبنان.[7]
إنه تولى رئاسة تحرير جريدة “المحرر” البيروتية التي كانت تصدر في البداية أسبوعية في كل اثنين، ثم غدت تصدر بشكل يومي. و بعد توليه رئاسة التحرير، بدأ يصدر ملحقا لهذه الجريدة بإسم “فلسطين”. و قد صدر العدد الأول لهذا الملحق في 5/11/1964 و استمر في الصدور حتى 6/7/1967. و حسب قول أوس داؤد يعقوب، هذا الملحق السياسي، والتحليلي، والتثقيفي الذي كان يعبر عن موقف حركة القوميين العرب من مجمل القضايا الفلسطينية إلى حد كبير، كان يصدر نصف شهري بإشراف كنفاني،[8] حينما يذكر محمد صديق بأن هذا الملحق كان يصدر أسبىوعيا.[9] وعلى أي حال، كان هذا الملحق من نوع متفرد يهتم بالأدب الفلسطيني، ويدعو إلى حرب وقائية ضد العدو المحتل، ويوزع مع المحرر علنيا. إن مقالات غسان في هذا الملحق دلت على عنايته البالغة بقضية فلسطين، ولفتت أنظار الناس إليه كمفكر فلسطيني وصحفي جاد، فأصبح مرجعا للذين يهتمون بالقضايا الفلسطينية، من تاريخها، وأخبارها، وشؤونها، وأحداثها.
في عام 1967 إنضم غسان إلى مجلس تحرير جريدة “الأنوار” اليومية اللبنانية الرائدة، التي كانت تعبر عن وجهة نظر الناصريين، ، و تولى رئاسة تحرير ملحقها الأسبوعي، فيكتب لها الافتتاحية الأسبوعية الشهيرة.[10] وكذلك كان يكتب عمودا يوميا في الصفحة الأولى لمجلة “الأنوار” بعنوان “أنوار على الأحداث”، وكان هذا العمود خاصا بالقضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.[11]
مجلة الهدف:
في يوليو عام 1969، استقال غسان عن “الأنوار” ليتولى رئاسة تحرير مجلة “الهدف” الناطقة بلسان “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي كانت ولدت عقب حل حركة القوميين العرب عام 1967. كان غسان عضو المكتب السياسي لهذه الجبهة، و ناطقا رسميا بإسمها، فاشترت الجبهة امتياز هذه المجلة، التي كانت في الحقيقة مجلة سياسية يومية، بإسم غسان كنفاني لتكون لسان حالها.[12]
عندما دخلت هذه المجلة بحوزة الجبهة، و تولى غسان رئاسة تحريرها جعل يصدرها كل أسبوع بعشرين صفحة على قطع كبير- إلا أنه أصدرها خلال أحداث أيلول الجسام عام 1970 بشكل يومي لمدة تسعة أيام- وحولها إلى منبر للصحافة الثورية تهدف إلى توحيد القوى المتحاربة الفلسطينية، وتوجيه العمل السياسي والثوري بكل أنواعها إلى العدو المحتل، ونبذ جميع أنواع مشاريع المهاودة، والمساواة، والاستلام. وقد عبر غسان عن الغاية من إصدارها في عددها الأول الذي صدر 26 يوليو 1969، وهي كما يلي:[13]
الرفض لكل الصيغ العاجزة المتخذة حينا طابع المساواة، و حينا طابع المهاودة، وحينا ثالثا طابع الوسيطة، و اعتناق هذا الرفض الثوري أساسا للمعركة المصيرية.
إنها أتت ردا على الصناعة الإعلامية العربية التي اسقطتها القيم التجارية، وقيم المجتمع المنهار، وفي دوامة العجز والفشل.
أنها لم تسمح لمواقف الارتجال والانفعال المزايدة أن تحل مكان موقف الموضوعية والعلمية
فكما تبدو من الأهداف المذكورة أعلاه، كانت هذه المجلة مجلة ثورية ضد كل ضعف طرأ على موقف الشعب الفلسطيني والعربي تجاه الحرية والاستقلال بدون أية رعاية. وكانت لافتتاحيات غسان الجريئة دوية في المجتمع، و وقع على ملوك العرب، فقد تعرضت المجلة للمحاكمة مرات عديدة نتيجة لبعض افتتاحياته، و أودع غسان السجن في 17 تشرين الثاني عام 1972م بتهمة القدح و الذم والإساءة إلى ملكين عربيين. و عند غسان “هذه التهمة تفقد المقال قيمته، و تجعله بلا معنى، فالمقال ليس إلا نقدا لموقف سياسي مسؤول عن ذلك الملك الذي هو بدوره نتيجة منطقية لبنية النظام الذي يجلس على قمته.”[14]
و ركز غسان على القضايا العديدة من خلال مقالاته و افتتاحياته في هذه المجلة، و من أهمها ما يلي:[15]
الوضع الداخلي للثورة الفلسطينية من كافة جوانبها، ووحدة العمل الوطني الفلسطيني، والقضايا المختلفة التي تهم الشعب العربي و ظروف حياته.
تطور العمل الثوري المسلح، وتعبئة الجماهير، وتنظيمها، وتجهيزها لمعركة التحرير.
قضايا حركة التحرير الفلسطينية
فضح القوى الإمبريالية العالمية والصهيونية، والقوى الرجعية الحليفة لهما.
القضايا الثقافية، طبقية الأدب والفن، إبراز أدباء الأرض المحتلة، تسليط الأضواء على الأدب الصهيوني، النقد الأدبي.
لم يكتف غسان بكتابة الافتتاحيات فقط، بل تحمل مسؤوليات تحرير الأركان العديدة في هذه المجلة من أهمها أركان الأحداث العربية، وأركان الثقافة، رغم أن مرض السكر، والتهاب المفاصل قد نهش جسده الرقيق، و هو يذكر في حوار ظروفَ العمل المرهقة في هذه المجلة فيقول “إن العمل في المجلة مرهق جدا. هذا هو شعوري الآن و قد أتممت عدد هذا الأسبوع. إنني أشعر بالإرهاق، و أنه لأمر مروع لأي كان أن يعمل في مجلة كهذه. ففي اللحظة التي تنتهي فيها آخر جملة من العدد الآخر، تجد نفسك فجأة تجاه عشرين صفحة فارغة تملأها…و أنه لمن الصعب أن يصدق الآخرون بأن ثلاثة أشخاص فقط يقومون بتحرير الهدف. و هذه الحالة قائمة منذ ثلاث سنوات.”[16]
و أدت هذه الظروف والمسؤوليات المكثفة أن يختار غسان توقيعات مختلفة لنفسه بالإضافة إلى إسمه الحقيقي لملأ صفحات هذه المجلة، والمجلات الأخرى بما فيها مجلة “الشؤون الفلسطينية”، و مجلة “الصياد”. فكان يكتب بتوقيع “غ.ك.”، و “فارس فارس”، و “أبو العز”، و “أبو فايز” و بعض الإشارات. و ظل غسان يشتغل كرئيس تحرير هذه المجلة حتى استشهد في صباح الثامن من شهر تموز عام 1972.[17]
مقالات فارس فارس:
من كتابات غسان الصحفية، مقالات تمتاز بالنقد الساخر كتبها خلال خمس سنوات أخيرة من حياته بتوقيع مستعار. إنه كتب هذه المقالات الساخرة أولا في “ملحق الأنوار” الأسبوعي خلال العام 1968 بتوقيع “فارس فارس”، تحت عنوان عام هو “كلمة نقد”. ثم كتب بنفس التوقيع و بنفس العنوان في مجلة “الصياد” اعتبارا من أوائل شباط عام 1972 حتى أوائل تموز من نفس العام حين استشهد.[18] و قد جمع هذه المقالات الأستاذ محمد دكروب في كتاب بعنوان “مقالات فارس فارس: كتابات ساخرة”، و نشرها مع مقدمة قيمة. و يجب التنويه هنا بأن تناولي لكتابات غسان الساخرة بالتالي يعتمد إلى هذا الكتاب الذي طبعته دار الآداب ببيروت عام 1996 لأول مرة.
و هذه المقالات الساخرة التي كتبها بتوقيع “فارس فارس” لم تظهر بالمصادفة، و لم يتجه غسان الجاد إلى كتابة السخرية بصورة مفاجئة، بل نجد عنده قبل ظهور هذه المقالات بوادر السخرية في شكل يومياته التي كان نشرها في جريدة “المحرر” اليومية خلال العام 1965 تحت عنوان “بإيجاز”، بتوقيع “أ.ف.” اي “أبو فايز”، و فائز هو إسم ابنه الذي ولد في عام 1961. و يقول محمد دكروب عن هذه اليوميات: “الطابع العام لهذه اليوميات هو التناول الساخر لجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية مع إطلالات نادرة و خفيفة على الحياة الثقافية. و لعل هذه اليوميات كانت بمثابة بروفة في الكتابة الساخرة مهدت لظهور فارس فارس و مقالاته النقدية الأكثر تنوعا و عمقا و نضجا.”[19] فهذه اليوميات، التي تدل على دراما الحياة والموت، كانت التجربة الأولى لغسان في مجال الكتابة الساخرة، النوع الأدبي الذي كان مفقودا في الأدب العربي المعاصر.
و لفهم مدى السخرية في هذه اليوميات، ونوعيتها، أعرض هناك نموذجا من دفتر يومياته. إنه كان كتب هذه اليومية بعنوان “السبب الحقيقي وراء الأزمة”، وهي كما يلي:[20]
“يجب أن يفهم الناس أن عدم اكتراث أعضاء الحكومة بأزمة الغلاء في البلد يعود إلى سبب بسيط وهو أنهم يقومون بتطبيق ريجيم غذائي بناء على نصائح الأطباء، و لذلك فهم يأكلون خضرة مسلوقة دون دهن، و دون لحم، في محاولة يائسة لتذويب كروشهم. و هم لن يقولوا للناس “كلوا بسكوت إذن” لأنهم أنفسهم لا يأكلون البسكوت، بناء على تعليمات الريجيم. و كذلك فإن غلاء أجور المواصلات في البوسطات الجديدة يعود إلى سبب مماثل وهو أن معاليهم يفضلون المشي، للغايات الريجيمية نفسها. و لذلك فليس هناك أي سوء نية في الموضوع، والصحف التي تتحامل على الحكومة ليس عندها أي ذوق ولا تقدير، يعني أنها لا تهتم بالقضية الأساسية القائمة الآن وهي تذويب كروش أركان الحكومة. صحيح أن الصحف لا تتعاطف مع الحكومة، ولا تقدر ظروفها واهتماماتها وهمومها، ولا تتعمق في البحث عن سبب عدم اكتراث الحكومة بأزمة الغذاء.”
كتب غسان هذه اليومية في 9 أبريل 1965، و تناول فيها أزمة الغلاء في بلده بطريق ساخر، وبإيجاز مازحا من كروش أركان الحكومة، والريجيم الغذائي الذي يختارونه لتذويب كروشهم، كأن القضية الأساسية القائمة ليست الغلاء بل تذويب الكروش.
على أساس هذه اليوميات الساخرة، بنى غسان صرخا شامخا في مجال السخرية في السنوات التالية. كان غسان يأنس إلى هذا الصرخ مرة كل أسبوع بقناع “فارس فارس” انفلاتا من وطأة المستلزمات النضالية، وموجات الحزن في زمان فُجع العرب بهزيمة حزيران عام 1967، و يبدو كأن غسان اختار لنفسه طريقا غير طريق اليأس والإحباط العام في ذلك الحين، كما يقول محمد دكروب في مقدمته لـمجموعة “مقالات فارس فارس”:
“تحت قناع فارس فارس هذا، كان غسان ينطلق على هواه، يتحرر إلى حد كبير من صفة كونه: غسان كنفاني المناضل الفلسطيني الحزبي الملتزم والمسؤول…ينتقد، وينكر، ويسخر، ويتمسخر، ويفضح، ويكشف الزّيف-في الفن وفي الموقف- بما لم يكن ليتيح لنفسه أن يكتبه تحت خيمة إسمه المعروف…فتظنه انزلق على هواه الفردي المحض. ولكنك إذا تابعت هذه الصفحات متمعنا، ومتذوقا، ترى أن الساخر فارس فارس يلتزم بأعلى درجات الأمانة للخط النضالي الفكري السياسي، والفني خصوصا لغسان كنفاني.”[21]
وهذه المقالات التي عالجت الأعمال الأدبية، والفكرية والفنية، حينا بسخرية ضاحكة وحينا آخر بسخرية جارحة، كانت من نوع فريد بالنسبة للنقد الأدبي العربي، فالأدب الساخر يندر في الأدب العربي، والأدباء لا يأخذونه بعين الاعتبار، فعندهم، هذا خارج عن مجالات الأدب لأنه يتعارض مع وقار الأدب والإبداع.
كانت هذه المقالات تدل على اطلاع غسان الواسع العميق على آخر تيارات الفكر والفن، و متابعته المتواصلة للصراعات التجديدية التي حفل بها العقد السابع من القرن الماضي، كما يقول عادل الأسطة: “يبدو كنفاني في مقالاته قارئاً جيداً ومتابعاً حثيثاً لما كانت المطابع العربية في لبنان تطبعه، وقد أقرّ هو بهذه الخصلة، خصلة القراءة والمتابعة. كان قارئاً نهماً….. ولديه حسّ نقدي، ويبدو إنساناً طالعاً من بين الناس، ذا موقف ملتزم، وفوق هذا يبدو كاتباً ساخراً متهكّماً.”[22] وفي هذه المقالات كان غسان منفتحا على الأفق العربي بكل سعته فيتناول الإنتاجات الأدبية والفنية، والأعمال الفكرية والسياسية من أنحاء الأقطار العربية والعالمية، ويستعرضها استعراضا نقديا ساخرا.
و قول غسان في هذه المقالات، كان يستند إلى المعرفة و يصدر عن دراية، وتأمل، و ذلك جعله ناقدا أدبيا لماحا يتصف بتذوق فني رفيع، و بخفة الدم، و يميز بين عناصر الإبداع والأصالة و بين عناصر الضحالة والاصطناع واللاموهوبة بكل مهارة ونجاح، وبسليقة سخرية فائقة. وسليقة السخر عنده –كما يقول محمد دكروب- “كانت تميل به إلى التفتيش عن أعمال أدبية تتيح له ضحالتها، وادعاءاتها وتفاهتها.”[23]
ونجد في ثنايا مقالات فارس فارس، أنه عبر عن بعض آرائه في النقد الساخر، فيقول في مكان “الأدب الساخر ليس تسلية، و ليس قتلا للوقت، ولكنه درجة عالية من النقد”. و يقول في مكان آخر “السخرية ليست تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي و بين الكاتب الساخر يشابه الفرق بين الحنطور والطائرة، و إذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحي مهرجا.” و يقول “كى يستطيع الكاتب أن ينقد بسخرية فإنه أولا يجب أن يمتلك تصورا لما هو أفضل، أو لما كان يجب أن يكون.” و في رأيه “إن فن السخرية هو أصعب فنون الكتابة على الإطلاق، إذ المطلوب من الكاتب أن يقنع القارئ-بالإضافة إلى جميع البنود المعروفة في الكتابة-بأن دمه خفيف.” و يقول “إن الجملة الساخرة الأفضل هي الجملة التي يبذل فيها جهد أكثر.”[24]
و نرى في الأمثلة التالية كيف جملة واحدة تستطيع أن تجبر القارئ على الابتسامة والقهقهة، فيقول غسان وهو يتناول كتاب الشيخ أمين بن نخلة الزمخشري المسمى بـ”الهواء الطلق”:
“وها هو ذا رجل يساوي ثقله ذهبا، مثل الآثار القديمة و أنت إذ تقرأ كتاباته تصاب بدهشة ما بعدها دهشة، كأنك و أنت تنقب عن الآثار القديمة تحت جبل من الركام والرمل، تفتح حجرا فترى هناك، بين الفخار المكسور والعظام، و صفائح الرق، رجلا يقول لك: السلام عليكم! و مع أن أمين نخلة يسمى كتابه (في الهواء الطلق ) فإن القارئ في الواقع لا يشعر بذلك أبدا، ليس هواء ولا من يتهوون، وليس طلقا ولا من ينطلقون.”[25]
و يقول غسان، وهو يتناول كتاب مصطفى أبو لبده”ليس في الكتاب أكثر مما في عنوانه إلا من حيث الكم.”[26] ويقول وهو يقوم بتحليل كتاب عبد الكريم الجهيمان المعنون بـ”من أساطيرنا الشعبية في قلب جزيرة العرب” الذي احتوى على 27 أسطورة: ” للمؤلف 27 أسطورة، وهو شخصيا الأسطورة الـ28.”
و يقول وهو يتناول كتاب ملحم قربان في أبحاث فلسفية: “إن الدكتور قربان يريد أن يثبت أن فلاسفة العالم في بحثهم عن الحقيقة يشتبهون رجلا معصوب العينين يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة……ولكن الدكتور قربان نفسه، في هذا البحث، يشبه رجلا معصوب العينين يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء..غير موجودة فيها.”[27]
إنه يتحول في هذه المقالات من السخرية إلى الجدية الممتزجة بالسخرية في كثير من الأحيان حين يرى الانتاجات في الأدب والفن التي تراعي الفن، و تصدر عن موهبة فياضة، كما نراه يبدو معجبا كثيرا برؤية “خمسة أصوات” لـ”طعمة غائب فرمان” فيقول: “أنا لا أعرف إسم المؤلف، ولم أسمع عنه قبل الآن، إنني حين اشتريت الرواية قلت للبائع إن الإسم لا يوحي إلى بشيئ، وأنه من الغريب أن يطمح رجل إسمه “غائب” بأن يكون “حاضرا” في عالم الإنتاج الأدبي، أو يكون لدى شخص إسمه الثاني “فرمان” طموع أعلى من أن يتوظف ككاتب في دائرة الطابق الطابعة للباب العالي. و مع ذلك فقد غامرت و اشتريت الكتاب بخمس ليرات لأن اسمه جميل، لأنني كنت أفتش عن رواية أنشرها نشرا في هذه الزاوية التي ولدت لئيمة، و ستموت كذلك.” ثم يعبر فارس فارس عن مدى تأثره بهذه الرواية فيقول: “منذ السطر الأول لهذه الرواية التي تطول إلى 295 صفحة شعرت أنني بين أصابع رجل موهوب، أخذني في رحلة إلى أعماق العراق، و أعماق أناسها، و رد للأدب المعاصر في ذلك البلد السباق دائما في الانتاج الفني قيمته و معناه، و أعطاني شيئا كنت أفتش عنه دائما و عبثا أن أجده!”
و بعد ذكر إعجابه بهذه الرواية، يقصد فارس فارس الخروج عن إطار هذا العمود الساخر، و يظهر في الزي الجاد اعترافا بالمستوى الفني لهذه الرواية، وإظهارا لإعجابه العميق بها، فيقول: “فلذلك كله، أيها السادة، قررت أن أخرج من طابع الزاوية هذه المرة على الأقل لأبرهن لأولئك الذين يعتقدون أن الله سبحانه و تعالى خلقني شتاما أنهم مخطئون، وأن الذي يجعلني أشتم هو نوع الانتاج الأدبي الذي يستحق الشتم، فأنا في الواقع مرآة للأشياء، و لست مطبلا مزمرا لها.”[28]
و شخصية فارس فارس لم تظهر في زيها الحقيقي أي بزي غسان إلا بعد استشهاده، و عندئذ عرف الناس أن غسان كنفاني هو الذي كان يظهر في زي “فارس فارس”. والمقالة الأخيرة التي كتبها غسان بتوقيع فارس فارس ظهرت بعد اغتياله بأسبوع في مجلة “الصياد”، في 16 تموز 1972، بعنوان “ملحمة المعزاية والذئب”. وهذه المجلة للمرة الأولى والأخيرة كشفت قناعا عن وجه فارس فارس، وأوضحت بإسم غسان كنفاني فتقول: “هذا المقال الذي كتبه غسان قبل أيام من استشهاده، لم يكن مقدرا له أن يكون المقال الأخير بإسم فارس فارس…ولم يكن مقدرا له أيضا أن ينشر بإسم كاتبه الحقيقي.”[29] فلم يكن يعرف القراء إلا عدد قليل منهم أن فارس فارس هو غسان كنفاني كما تحدث غسان كنفاني نفسه عن ذلك: “البعض يقول إن فارس هو شخص غير حقيقي (أ تراني شبحا دون أن تعرف أمي ذلك؟).. والبعض يقول إن إسمي مستعار (لمجرد أنهم لم يتعرفوا علي شخصيا)، والبعض يقول إن أحدهم يكتب لي (لماذا؟)…خلال هذه الفترة راح عدد من الناس ضحية هذه الاتهامات ما عداى!.و إذا كان صحيحا أن بعض المتهمين غيروا آراءهم حين قابلوني وتحققوا من تذكرة هويتي طلوعا ونزولا، و نظروا إلى من فوق لتحت غير مصدقين (لأنني أبدو في الأحوال العادية مهذبا جدا) فإن غيرهم ممن لن تتح حتى الآن فرصة مقابلتهم قد راحوا يتهمون غيري بي.. فكم عانى الأستاذ كنفاني/غسان/ من هذه الاتهامات، و كم انصبت الشتائم على رأس الأستاذ جرداق/جورج بسببي، و كم سمع الأستاذ غانم/روبير، سكرتير تحرير ملحق الأنوار/ كلمات هائلة على التلفون…و في كل هذه الحالات كنت سعيدا حقا.”[30]
فكان القراء الكثيرون لم يكن يعرفون الكاتب المختفي خلف توقيع فارس فارس، و لم ينكشف ذلك بصورة جلية إلا بعد استشهاد غسان عن طريق بعض أصدقاءه، و عندما نشرت مجلة “الصياد” مقاله الأخير بإسمه الصريح. و بما أن شخصية فارس فارس ظهرت بشكل غسان كنفاي، كان هذا المقال الأخير يحمل الطابع العام لكتابات غسان، فنراه يرفع القناع عن العصبية المتأصلة في الإعلام الغربي ضد العرب والفلسطينين، ويذكر انحياز الإعلام الغربي المتعصب إلى جانب إسرائيل الغاصب في سياق قصف إسرائيل القنابل من وزن 2500 رطل فوق بيوت اللبن والطين في دير العشاير، فيقول:
“أثناء ذلك، كان محرروا “الإكسبرس” الفرنسية يحللون هجمات المقاومة بقولهم: “إن الطائفة الأرثوذكسية في العالم العربي قد تأثرت بالإسلام، إلى حد صارت تسمح لنفسها بالقيام بعمليات همجية ضد الآمنين المدنيين المتربعين بهدوء و سلام فوق الأراضي المحتلة.”..و قلت لنفسي: يا سلام كيف ينحدر العقل الغربي حين يصبح مرشوا وجبانا، ألا يشبه هذا الكلام كلام هتلر، و روزنبرغ و أمثالهما؟ على أن الإكسبرس نفسها لم تذكر حرفا واحدا عندما زخ مطر الموت فوق فرويي الجنوب العزل، و أطلقت على تلك العملية البربرية إسم “رد عسكري”. قلنا: لعل “التايم” على انحيازها، لم تنحط إلى درجة جنون “إكسبرس” و “النوفيل أوبزرفاتور”، فإذا بنا نستفتح بالعبارة التالية: لماذا يجب أن يقتل يابانيون حجاجا بورتوريكيين لمجرد أن العرب يكرهون اليهود؟ قلت: عجبا! ألم يكن بوسع الكاتب أن يقول: لمجرد أن العرب و اليهود يكرهون بعضهم بعضا؟” إذا شاءت الموضوعية المزيفة؟”
“و صباح اليوم الذي تلاه، قلنا: لعل إذاعة لندن معقولة أكثر..فإذا بها ألعن وألعن..أما نشرتها بالإنكليزية فلم تشأ أن تزعج أفكار السادة سكان لندن، فلم تذكر شيئا، ولا حرفا واحدا، عن المئات الذين ماتوا تحت قصف الطائرات الإسرائيلية أثناء العدوان على جنوب لبنان.”
“لجأنا إلى “النيويورك تايمز”، و إلى “الإيكونوميست”، إلى الفيغارو، و إلى “اللوموند”، إلى “ستامبا”، إلى “دي فليب”، و كانت الشعار المستتر واحدا، وهو الشعار الذي يجد رواجا كبيرا هذه الأيام: “إن العربي الجيد هو فقط العربي الميت!”.
“قلت: قرأت الصحف، و قرأت تعليقاتها إثر حادث مطار اللد الأول، ثم حادث مطار اللد الثاني، ثم حوادث الاعتداءات الإسرائيلية. و طويت الجرائد و أنا أنفخ غيظا، إذ إن هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة. و بعد ملايين السنين من انحدارنا من العصور الحجرية، ما زالت القاعدة الذهبية إياها هي الصحيحة: إن صاحب الحجر الأكبر، و حامل العصا الأتخن، والبلطجي الشراني هو الذي معه حق.”[31]
و ليس في هذا المقال فقط، بل طابع غسان العام متواجد في مقالاته الساخرة هذه أيضا في كثير من الأحيان كما يقول محمد دكروب: “أن واحة فارس فارس، التي خلقها غسان كنفاني ليفئ اليها، مرة في الأسبوع، متخففا من أعباء ومسؤوليات إسمه وصفته الحزبية النضالية والقيادية في حركة التحرير الفلسطيني.. كانت، في حقيقتها ومسارها، ذهابا أعمق في اتجاه القضية نفسها، وأن مفاعيل الهزيمة، سلبا وإيجابا، حاضرة في النسيج العميق لهذه الكتابات كلها، و حاضرة كذلك و بصورة مباشرة في عدد من الجدالات ذات اللغة الساخرة و ذات الطابع الجدي، على حد سواء.”[32]
نظرة غسان إلى الصحافة:
و كان غسان يَعتبر الإعلام إحدى معارك المقاومة كما يقول في مقال له :”إن الإعلام معركة. و بالنسبة لنا، فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصارا إذا ما جرى خوضها من خلال المبادرة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهريا ضد قضايانا. إننا في حالة حرب، و هي بالنسبة للفلسطينيين، على الأقل، مسألة حياة أو موت.”[33]
مراجع البحث:
[1] الأهرام الأسبوعي، العدد 594، 11-17 يوليو 2002
[2] حنا مقبل، ندوة “غسان كنفاني..قال الوعي الفلسطيني”، مجلة “الهدف”، العدد 496، 11تموز، 1981، صـ35.
[3] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23
[4] نفس المصدر، صـ 23.
[5] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no.95-96.
[6] الأسدي، عبده، دليل صحافة المقاومة الفلسطينية (1965-1995)، دار النمير للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 1998، صـ 57.
[7] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no. 97.
[8] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23.
[9] Muhammad Siddiq, Man is a Cause: Political consciousness and the fiction of Ghassan Kanafani, University of Washington Press, London, 1984, P no.97.
[10] نفس المصدر، صـ 98.
[11] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 23.
[12] الأسدي، عبده، دليل صحافة المقاومة الفلسطينية (1965-1995)، دار النمير للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 1998، صـ 171.
[13] نفس المصدر، صـ 171.
[14] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 28.
[15] نفس المصدر، صـ 29.
[16] نفس المصدر، صـ 28.
[17] كنفاني غسان، حول قضية أبو حميدو و قضاى التعامل الإعلامي والثقافي مع العدو، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 12، آب 1972م.
[18] كنفاني، غسان، مقالات فارس فارس، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996، صـ 5.
[19] نفس المصدر، صـ 236.
[20] نفس المصدر، صـ 238.
[21] نفس المصدر، صـ 8.
[22] عادل الأسطة، غسّان كنفاني: “فارس فارس”، صحيفة الأيام، تاريخ 13/04/2013
[23] كنفاني، غسان، مقالات فارس فارس، دار الآداب، بيروت، ط1، 1996، صـ 13.
[24] نفس المصدر، صـ 9-10.
[25] نفس المصدر، صـ 40.
[26] نفس المصدر، صـ 46.
[27] نفس المصدر، صـ 54.
[28] نفس المصدر، صـ 49-51
[29] نفس المصدر، صـ 232.
[30] نفس المصدر، صـ 11.
[31] نفس المصدر، صـ 232-235.
[32] نفس المصدر، صـ 23-24.
[33] أوس داؤد يعقوب، غسان كنفاني: الشاهد والشهيد، مجلة الفكر، ملحق العدد 113، صـ 28.
رابط النشر: http://www.aqlamalhind.com/?p=884