قصة قصيرة: بين صفوف السيارات
كان رامو من الناشئين الذين يصبحون و يمسون على جانب الشارع عند تلك الإشارة بالقرب من معبد كالكا الفخم،في العاصم الهندية، فبعضهم يجرون للتسول إلى السيارات التي تقف كلما تتحول الإشارة إلى الضوء الأحمر من حين لحين ، و بعضهم يسرعون لبيع ما يحملون بين أيديهم من الكتب السوقية ذات الأغلفة الخلابة، وباقات الأزهار المائلة إلى الذبول، وأشكال الحيوانات والطيور المنفوخة و اللعبات و الدمى للصغار.
عندما فتح رامو عينيه و بدأ يفهم ما يجري حوله، رأى أمه تحمله في أيديها القذرة و تتسول أمام معبد كالكا الفخم عند منحنى الشارع فتتعرض للنهر و الرد من الزوار أحيانا والرفق و اللين أحيانا أخرى، فبعضهم يجود بربية أو نصفها، وكانت في بعض الأيام تذهب من باب إلى باب متسولة و هكذا كانت تسد رمقها و تطعم نفسها و طفلها. إنها كانت تسكن تحت جسر المعبر عند نفس المعبد مع بعض الشحاذين و المتسولات.
نشأ رامو هكذا في حضن أمه، و عندما تعلم المشئ، بدأ يتسول هو أيضا في الشارع، و كان لم يلق رجلا إلا متسولا و يلح في السؤال، و أكثر ما أدى إلحاحه هذا إلى اضطرار الناس أن ينهره و ربما كان يفوز بربية أو نصفها.
هكذا كانت تجري أيامه إذ يوما طلع عليه رجل ففعل به كالعادة، ولكن ذلك الرجل لم ينهره و لم يعطه ربية بل رفق به و دعاه إلىه و أدناه منه ثم عرض عليه أن يبيع له الصحف عند تلك الإشارة و يقسما الربح بينهما. ففي بداية الأمر رفض هذا العرض و لكن سرعان ما قبل، فبدأ يبيع في الشارع تلك المجلات الفاتنة التي تعرض هذه الممثلة أو تلك من بوليوود على أغلفتها في ملابس قصيرة، و بعضها تحمل بعض ممثلات هوليوود الرشيقات في ملابس تكشف أكثر مما تستر من أجسامهن البيضاء. أحب رامو بيع هذه المجلات و الصحف فلا يواجه نهرا و غيظا و لا ردا خشنا بل يساوم أولئك الذين يجلسون في السيارات الغالية في ملابس فاخرة، ولكنه كان لا يتمكن من بيع إلا بضع مجلات رغم أنه كان يجري بين هذا الشارع و ذلك عند الإشارة طول النهار، كان يهرع إلى الزبائن الجالسين في السيارات في وسط الشارع كلما تتحول الإشارة إلى الإحمر، و كم من مرة ألقى نفسه في خطر لتحول الإشارة من الأحمر إلى الأخضر وهو في وسط الطريق و بين صفوف السيارات ولم ينته بعد من المساومة مع زبون في سيارة، أو كاد أن يقنعه، أو كان على وشك البيع، وهؤلاء الناس في السيارات يساومون كثيرا.
إنه كان عذب الصوت، و لين الحديث في المساومة، و قد و قعت طريقة كلامه وقعا حسنا في قلب ذلك الرجل الذي كان يمر بهذه الإشارة في سيارة سوداء كبيرة كل يوم في تمام الساعة التاسعة و رآه مرارا يجري بين صفوف السيارات، و ساوم معه عدة مرات، فأراد أن يخرجه من هذه المعضلة فدعاه يوما إلى بيته و استقدم له الطعام الشهي الذي لم يأكله رامو في طول حياته، و الملبس و اقترح عليه أن يفتح دكانا صغيرا للشائ أمام مكتبه في جورجاؤن التي هي معروفة لمكاتب الشركات، و أعطاه بعض المال، ليشتري علب السيجارة و البيري و حزم التبغ، و مستلزمات الشائ. ففعل رامو كما أشار ذلك الرجل الشريف و اشترى بالإضافة إلى هذه الأشياء كلها بوليثين و جعل به ترتيبا مؤقتا للدكان أمام ذلك المبنى الفخم ذي الطوابق المتعددة. و لكن منعه حراس المبنى من أن يجلس أمام مبنى المكتب، فبرح إلى اليمين و جعل لنفسه مكانا من أراضي مبنى قيد الإنشاء، و بدأ يبيع التبغ المعبأ في الحقائب البلاستيكية الصغيرة، ،و الشاء و كذلك بعض الوجبات التي يتناوله الناس ترفيها في الوقفات خلال العمل. بدأ الموظفون في المكتب يأوون إلى دكانه خلال فترات الاستراحة، و جعل يكسب المال الحلال بعرق جبينه و ثبت هذا رابحا و نبيلا، و رغم أنه كان يواجه بعض المشكلات فكان هناك بعض الموظفين في المكتب الذين لا يدفعون القيمة نقدا، بل يقولون له “سندفع غدا” و لكن لم يدفعوا قط.
ولكن لم يمض على ذلك أيام حتى أنكر ذلك صاحب الفندق الذي يقع بعيدا من هنا، و طلب منه أن يدفع له مبلغا معينا في كل شهر و إلا فلا يدعه أن يجلس هنا و سيشكو أمره إلى البلدية و له علاقة وطيدة مع مؤظفي البلدية و الشرطة في تلك المنطقة لأنه هو بنفسه يدفع بعض المال إلى الشرطة.
كان راموا لا يتوقع مثل هذا الطلب من أحد، فلم يرض أن يعطئ من كسبه القليل من لا يعرفه و من لا علاقة له به، فحدث ما لم يكن يتوقعه، فذات يوم، اقتحم دكانه مؤظفوا البلدية في صحبة الشرطة، و صادروا كل ما كان عنده من الأشياء والنقود و قد لطمه أحدهم، و كاد أن يضربه شرطي بعصاه الغليظ لو لا منعه الآخر فاكتفى بالنهر فقط.
بعد ذهابهم، بكي رامو طويلا بكاء لم يبك مثله قط، فلم يجد نفسه مخذولا قط كما وجدها اليوم كئيبا حزينا، من له أن يشاركه في حزنه و ألمه و من له أن يهدئه، فلم ير وجه أبيه قط في حياته، و لم يدر من كان أبوه، و قد ماتت المؤنسة الوحيدة أمه منذ أعوام في حادث اصطدام السيارات، و فذكر أصدقاءه الذين كانوا يشاجرونه لأمور تافهة ولكن كانوا يتسولون معه متمازحين بعضهم البعض في ذلك الشارع،، و في هذه الحالة الكئيبة، لم يجد سبيلا إلا إلى ذلك الطريق الذي يهدي إلى تلك الإشارة التي تركها منذ أيام، ولم يجد عملا
لا أن يلجأ إلى التسول مرة أخرى.
رابط النشر:
http://www.aqlamalhind.com/?p=126
No comments:
Post a Comment